وحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة، يعرف الاقتصاد الدائري بأنه الاقتصاد الذي يسعى إلى الحفاظ على قيمة المنتجات والموارد لأطول فترة ممكنة، وبالتالي يساعد في فصل نمو التصنيع والإنتاج والاستهلاك، عن استخدام الموارد الطبيعية، ويعد بمنافع اقتصادية واجتماعية وبيئية بشكل متكامل.
وتصب خطط المجتمع الدولي للانتقال إلى الاقتصاد الدائري بحلول عام 2030 في إطار تحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي تسعى إلى تحقيق تحول منهجي في المبادئ الثلاثة الأساسية للاقتصاد الدائري وهي: تصميم طرق التخلص من النفايات والتلوث؛ والحفاظ على المنتجات والمواد بشكل قابل للاستخدام أطول فترة ممكنة؛ وتجديد النظم الطبيعية.
وظهر مصطلح الاقتصاد الدائري في سبعينيات القرن الماضي، وهو يسعى إلى الحد من استخدامات الوقود الأحفوري والاعتماد على تدوير المنتجات، بما يضمن إنتاج مواد أكثر استدامة وأقل تلوثاً للبيئة، وهو يمثل بديلا للاقتصاد الخطي، حيث يحافظ على صحة الإنسان والكائنات الحية، ويسمح باستدامة الحياة والموارد الطبيعية، ويعتمد على مصادر الطاقة المتجددة صديقة البيئة.
والاقتصاد الدائري أو المستدام يستخدم موارد أقل في عمليات التصنيع، مع تغيير ممارسات التخلص من المنتج عبر إعادة تدويره إما بالإصلاح أو إعادة التصنيع، عبر استعادة مكوناته كمادة خام واستخدامها في عملية تصنيع جديدة.
وحسب أحدث بيانات صادرة عن شركة الاستشارات (Accenture) فإن التحول إلى نموذج الاقتصاد الدائري عالمياً يمكن أن يمثل سوقاً بقيمة 4.5 تريليونات دولار بحلول عام 2030.
كما تتوقع "أكسنتشر" أن صناع السيارات الذين يتخذون نهجًا دائريًا للتصنيع، يمكن أن يتمتعوا بزيادة في الأرباح تصل إلى نسبة 150%، كما أن الانتقال إلى اقتصاد دائري يمكن أن يخلق 6 ملايين وظيفة في جميع أنحاء العالم، وفق تقديرات مكتب العمل الدولي.
وتتوقع مؤسسة "ستاندرد آند جلوبال" أن يصل حجم سوق البلاستيك المعاد تدويره إلى 45.6 مليار دولار أميركي بحلول العام 2025، كما أنه من المتوقع أيضًا أن تحل المواد البلاستيكية المعاد تدويرها ميكانيكياً محل أكثر من 1.7 مليون طن من المواد الأولية للبوليمر البكر، بحلول عام 2030، مقارنة بـ 688 ألف طن فقط، خلال العام 2020.
ويولي الاقتصاد الدائري، اهتمامًا كبيرا بمعالجة مشكلة البلاستيك، الذي لا يمكن التخلص منه أو إعادة تدويره أو تحويله إلى سماد، حيث تحتاج هذه العملية لضخ استثمارات كبيرة في البنية التحتية للتجميع وإعادة المعالجة، لكنها يمكن أن تقلص كميات البلاستيك الملقاة في المحيطات بمعدل 80% سنويا، كما تحقق وفرات سنوية تناهز 200 مليار دولار، وتقلل 25% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، بحلول عام 2040.
في هذا الصدد، يقول الدكتور عبد المولى إسماعيل، الباحث في مجال البيئة والتنمية، إن التوسع في استخدامات الوقود الأحفوري من النفط والغاز والفحم يؤدي إلى زعزعة الاستقرار البيئي، وإلى أزمة ثلاثية تتمثل في تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي والتلوث، مؤكداً أن الحل يتمثل في الانتقال من الاقتصاد الخطي القائم على الهيدروكربون إلى اقتصاد دائري متنوع.
وأضاف إسماعيل في تصريحات لـ"إرم الاقتصادية" أنه لتجنب هذه التداعيات البيئية الخطيرة، تحتاج البشرية إلى خفض استخدامها للوقود الأحفوري والأسمدة الاصطناعية القائمة على النفط والبتروكيماويات (وخاصة البلاستيك).
وأوضح أنه لتحقيق اقتصاد دائري، يجب إيجاد مصادر بديلة للطاقة، مع الاعتماد على الأسمدة الحيوية وتوسيع نطاقها، وإدارة الأسمدة النيتروجينية على نحو أفضل لمنع الإفراط في استخدامها، إلى جانب الحد من إنتاج البلاستيك.
وشدد على أن استخراج الوقود الأحفوري وحرقه، وتحويله إلى مواد بلاستيكية، أو أسمدة نيتروجينية صناعية أو غيرها من البتروكيماويات، هو تقنية قديمة تعتمد على نموذج اقتصادي خطي عفا عليه الزمن، ويشكل الآن تهديدًا وجوديًا للحياة على الأرض كما نعرفها، ويفاقم من أزمة الاحتباس الحراري.
بدوره، يقول ستيفن ستون، نائب مدير قسم الصناعة والاقتصاد في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، في تصريحات لموقع "مونجابي" الأميركي المختص في شؤون البيئة والتنمية المستدامة، إن الوقود الأحفوري مع أنه يجلب العديد من الفوائد المجتمعية، إلا أنه "يعمل أيضًا على تكبيل الاقتصاد بتكلفة باهظة، ويخلق الكثير من الالتزامات تجاه إعادة التدوير، مضيفاً أن إنتاج النفط والغاز والفحم هو "رمز" لنموذج صناعي خطي، نحتاج سريعا إلى استبداله بحلول الاقتصاد الدائري.
من جانبها شددت آن فيلينتورف، زميلة أبحاث أولى في جامعة ليدز، على أن الوقود الأحفوري بسبب سُمِّيتِه وضرره البيئي المستمر، لا يتوافق بطبيعته مع تطوير الاقتصاد الدائري، الذي يهدف إلى تحسين البيئة وتعزيز المجتمع والحفاظ على الرخاء الاقتصادي، بينما الاستغلال المستمر للوقود الأحفوري لا يفعل أيًا من هذه الأشياء.
مع ذلك، تشير الباحثة في جامعة ليدز، في تصريحات للموقع الأميركي إلى أن تحقيق هذه الأهداف في مواجهة الاقتصاد العالمي المدمن على الوقود الأحفوري والمواد الكيميائية الزراعية والبتروكيماويات، والذي أصبح أكثر خطية وإسرافًا، يمثل تحديًا هائلاً.
ويرى خبراء البيئة، أنه نظراً للتهديد الوجودي الشديد الذي يشكله تغير المناخ، ومع كون قطاع الطاقة مسؤولاً عن ما يقرب من نصف انبعاثات الغازات الدفيئة، فإنه من الواضح أن خفض إنتاج الوقود الأحفوري، مع إحداث تحول هائل إلى الطاقة البديلة، من شأنه أن يأخذ الإنسانية خطوة جريئة نحو خفض الانبعاثات والدائرية.
وفقًا لوكالة الطاقة الدولية (IEA) ورغم التوسع في إنتاج الطاقة المتجددة، فإن الوقود الأحفوري ما زال يمثل نحو 80% من الطاقة العالمية. ولتحقيق أهداف صافي صفر انبعاثات، فإنه يجب أن تنمو مصادر الطاقة المتجددة سنوياً بنسبة 13% في الفترة من 2023 إلى 2030؛ أي أسرع مرتين مما كانت عليه خلال السنوات الخمس الماضية.
وفي هذا الصدد، يقول بيتر ثورن، عالم المناخ في جامعة ماينوث في أيرلندا، لصحيفة فايننشال تايمز، إن مجرد حرق جميع احتياطيات الوقود الأحفوري المستغلة حاليًا سيؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة بأكثر 1.5 درجة مئوية (2.7 درجة فهرنهايت).
وأضاف ثورت أنه لسوء الحظ، فإنه يتوقع أن يؤدي ارتفاع إنتاج النفط والغاز الطبيعي إلى دفع الكوكب إلى ما بعد الحد الأقصى لارتفاع درجة الحرارة بمقدار درجتين مئويتين (3.6 درجة فهرنهايت) عن المتفق عليها في اتفاق باريس لعام 2015، مما يعرض كوكب الأرض لخطر كارثة مناخية.
وبحسب الدكتور عبد المولي إسماعيل، فإن الصناعات الضارة بالبيئة مثل صناعات الإسمنت والبتروكيماويات والأسمدة الاصطناعية المعتمدة على النيتروجين، تشكل تحديًا خاصًا لخفض إنتاج النفط والغاز والفحم، حيث يعتمد هذا القطاع حاليًا على الوقود الأحفوري كمصدر للطاقة وكمواد أولية، ويقوم بتصنيع مجموعة هائلة من المواد المتنوعة؛ ومن أهمها المواد البلاستيكية التي تهدد البيئة.
ونوه "إسماعيل" إلى أن إعادة تدوير البلاستيك التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة تمثل فشلاً ذريعاً، حيث يتم جمع حوالي 14% فقط من إجمالي البلاستيك على مستوى العالم، وتتراوح نسبة إعادة التدوير عند حوالي 9%.
بدوره، يقول الدكتور فخري الفقي، أستاذ الاقتصاد، إن التحول إلى الاقتصاد الدائري ينطوي على مجموعة من الفوائد التي تتمثل في توفير مصادر إيرادات جديدة، من خلال نماذج أعمال مبتكرة وتحسين كفاءة الموارد وفاعليتها، وتعزيز الابتكار في المنتجات والخدمات، بالإضافة إلى التأثير الإيجابي في سلاسل الدعم، بخفض التكاليف وتقليل المخاطر والارتقاء بسمعة وقيمة الأسماء التجارية، وتقليل استهلاك الطاقة والمرافق وتعزيز علاقات المتعاملين.
وأضاف الفقي، في تصريحات لـ "إرم الاقتصادية"، أن الاقتصاد الدائري يسهم أيضاً في خلق فرص اقتصادية واستثمارية أفضل للشركات والمؤسسات، بالإضافة إلى مزاياه البيئية والاجتماعية، من خلال المحافظة على استخدام المنتجات والمعدات والبنية التحتية لفترة أطول، وبالتالي تحسين إنتاجية هذه الموارد، فكلما توسعنا في عمليات إعادة التدوير، قلت الحاجة إلى مواد خام جديدة، وبالتالي تناقصت كمية المخلفات.
وبالنسبة للدور الذي يمكن أن يؤديه الاقتصاد الدائري في السياسات الاقتصادية العامة، يقول الدكتور فخري الفقي، إن الاقتصاد الدائري يؤدي دوراً في إعادة السياسات الحكومية والمالية والاقتصادية إلى مسارها الداعم للبيئة، كما يسهم في توفير فرص اقتصادية واستثمارية أفضل للشركات، فضلا عن مزايا أخرى.
وأشار إلى أنه من المتوقع أن تبلغ كمية المخلفات السنوية نحو 3.4 مليارات طن عالميا بحلول عام 2050، وهذا رقم مخيف بالفعل، لكنه يحمل في طياته فرصاً واعدة للاستثمار المستدام في مجالات إدارة النفايات والتطور التكنولوجي في ظل اقتصاد دائري متقدم.