في خضم التحديات الاقتصادية التي تشهدها مصر، خرج على مدار الأيام الماضية نحو 12 مليار دولار من الأموال الساخنة، لتتكرر الأزمة ذاتها التي ضربت البلاد قبل عامين حينما تخارج 22 مليار دولار عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، مما تسبب بانخفاض قيمة الجنيه المصري وارتفاع الدولار، وتراجع مؤشرات البورصة المصرية.
خبراء مصرفيون واقتصاديون أكدوا لـ"إرم بزنس" أن هناك عوامل دفعت إلى خروج الأموال الساخنة من مصر أخيراً، على رأسها التوترات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وتزايد حدة الصراع بين إسرائيل وإيران عقب اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، فضلاً عن الهبوط الكبير في وول ستريت وأسواق الأسهم العالمية.
مع تصاعد الأزمة الجيوسياسية بين إيران وإسرائيل بشكل مفاجئ، بدأ المستثمرون الأجانب في سحب استثماراتهم تدريجياً من أذون الخزانة والأموال الساخنة، مبكراً عما كان متوقعاً في ديسمبر أو مارس المقبلين، وفق الخبير المصرفي المصري، محمد عبد العال، الذي قال لـ"إرم بزنس" إن حجم الأموال الساخنة في مصر وصل إلى 35.2 مليار دولار، بعد آخر تحرير لسعر الصرف في مارس الماضي.
وبحسب عبد العال، خرج نحو 12 مليار دولار من استثمارات الأموال الساخنة في محافظ الأوراق المالية وأدوات الدين الحكومية خلال الأيام الماضية، مما تسبب بإحداث ضغوط على قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار، وتراجع عنيف في مؤشرات البورصة المصرية.
في نهاية أبريل الماضي، ضخ المستثمرون الأجانب أكثر من 35.2 مليار دولار في أذون الخزانة الحكومية، ارتفاعاً من 32.7 مليار دولار بنهاية مارس، مقابل 13.6 مليار دولار بنهاية فبراير، وبنسبة زيادة بلغت نحو 140.4%، وفقا لبيانات "البنك المركزي المصري".
أذون الخزانة هي إحدى أدوات الدين الحكومي قصيرة الأجل، التي تبيعها وزارة المالية عبر البنك المركزي بآجال استحقاق متنوعة للبنوك والمستثمرين، لتمويل عجز الموازنة، مقابل حصولهم على فائدة في نهاية استحقاقها.
من جهته، أوضح الخبير الاقتصادي وليد جاب الله، في تصريحات لـ"إرم بزنس"، أن خروج الأموال الساخنة من أذون الخزانة أسهم بشكل كبير في تراجع الجنيه المصري وارتفاع سعر الدولار في البنوك، مرجعاً أسباب ذلك لتصاعد التوتر في منطقة الشرق الأوسط مثلما حدث في عام 2022 عقب اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية.
ورغم هذا الخروج الكبير للأموال الساخنة، يرى جاب الله أن الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى البنك المركزي، الذي يصل إلى 46 مليار دولار، يُعدّ مطمئناً وقادراً على تعويض أي خروج لهذه الأموال التي تبحث دائماً عن العائد المرتفع في الأسواق العالمية.
وفق الخبير الاقتصادي، فإن الأموال الساخنة ستظل تتدفق على الأسواق الناشئة، ومنها السوق المصري مرة أخرى، مثلما حدث في السنوات الماضية، مؤكداً أنه لا ضرر منها طالما تستهدف فقط الاستثمار في محافظ الأوراق المالية وأذون الخزانة؛ لأنه من الصعب حظرها داخل الأسواق.
وخلال الأيام الثلاثة الأخيرة، ارتفع سعر صرف الدولار في البنوك المصرية إلى أعلى مستوياته منذ تعويم الجنيه في مارس الماضي، مقترباً من 50 جنيهاً. ووفقاً لمحلل أسواق المال إيهاب سعيد، فإن هذا الارتفاع ناتج عن المبيعات الكبيرة في أذون الخزانة، إذ بلغت استثمارات الأجانب في محافظ الأوراق المالية 35.5 مليار دولار بنهاية يونيو الماضي.
وأشار سعيد إلى أن عمليات خروج الأموال الساخنة من السوق المصري، يوم الاثنين، أدت إلى هبوط كبير في مؤشرات البورصة، إذ انخفض المؤشر الرئيس "إيجي إكس 30" بنسبة 2.19%. مضيفاً أن الأموال الساخنة التي خرجت من السوق المصري خلال جلستي الأحد والاثنين الماضيين بلغت نحو 1.2 مليار دولار، بعد تراجع حاد في البورصات العالمية والعربية.
وفق رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية الدكتور رشاد عبده، فإن خروج الأموال الساخنة يزيد تعقيد الأزمات الاقتصادية في مصر، إذ قال في حديث لـ"إرم بزنس" إن الأموال الساخنة تدخل عندما تكون الفائدة مرتفعة، وتخرج بسرعة عند حدوث أي توترات، مما يزيد مشاكل ومعاناة الاقتصاد المصري.
ورغم أنه يمكن الاستفادة من الأموال الساخنة في توفير التمويل اللازم للحكومة والموازنة العامة ولسياسة الإصلاح النقدي والمالي في البلاد، لكنها وفق الرئيس التنفيذي للشركة المصرية للإيداع والقيد المركزي، ياسر زعزع، عادة ما تنطوي على عدة مخاطر كونها تستثمر في أدوات قصيرة المدى لمدة تتراوح ما بين 6 أشهر إلى سنة، وبالتالي فهي سريعة التخارج من الاقتصاد في حال تراجع العائد أو حدوث أي توترات جيوسياسية.
وكانت مصر عانت خلال عامي 2022 و2023 من تفاقم أزمة النقد الأجنبي بعد خروج استثمارات أجنبية غير مباشرة بنحو 22 مليار دولار في النصف الأول من 2022؛ بسبب مخاطر الحرب الروسية الأوكرانية وتبعاتها على المنطقة ككل، ومثّل هذا الأمر "ضربة قاصمة" للاقتصاد المصري، الذي اعتمد على تلك الأموال منذ عام 2016.
هذه الأزمة دفعت وزير المالية المصري السابق محمد معيط للتصريح لوسائل الإعلام، في يوليو 2022، بأن الدولة المصرية تعلمت الدرس فيما يخص أزمات الأموال الساخنة التي تعرضت لها في أعوام 2018 و2020 و2022، إذ خرج 15 مليار دولار و20 مليار دولار و22 مليار دولار على التوالي.
وشدّد معيط على أن الحكومة وضعت استراتيجية تنص على عدم الاعتماد على الأموال الساخنة مرة أخرى لتمويل الميزانية، بل يجب العمل على تعزيز الاستثمار الأجنبي وتحسين البيئة الاستثمارية وزيادة مشاركة القطاع الخاص، لأن هذه الأموال تأتي فقط للحصول على عوائد مرتفعة، وما إن تحدث صدمة، تغادر البلاد، على حد قوله.
وإذا كان هذا التدفق من الأموال الساخنة ساعد على تعزيز موارد البلاد من النقد الأجنبي وتصفية متأخرات الاستيراد وخفض التضخم قليلاً، يرى أستاذ الاقتصاد مدحت نافع أن تحقيق الاستقرار على المدى الطويل يتطلب إصلاحات اقتصادية أكثر صرامة، من دون اعتماد الدولة على الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة.
وقال نافع، لـ"إرم بزنس": "إذا كانت الأموال الساخنة ستلبي الاحتياجات التمويلية قصيرة الأجل مثل زيادة القوة الشرائية للحكومة وخفض التضخم، إلا أنه يجب معالجة المؤشرات الأطول أجلاً مثل الناتج المحلي الإجمالي وخفض البطالة وزيادة الصادرات والعمل على تعزيز الاستثمارات الأجنبية المباشرة طويلة المدى، التي تعود بالنفع على الاقتصاد المصري ككل.
يعرّف أستاذ الاقتصاد الأموال الساخنة بأنها تدفقات مالية ليس غرضها الاستثمار، وإنما تأتي إلى البلاد بغرض المضاربة، وتبحث دائما عن الأسواق التي تشهد انخفاضاً في قيمة العملة وارتفاعاً في نسبة الفوائد، وبالتالي فهي تستثمر في أدوات الدين الحكومية قصيرة أو متوسطة الأجل.
ويحذّر نافع من الأموال الساخنة؛ لأنها في حالة وجود أي أخبار سلبية أو توترات سياسية أو اقتصادية تخرج على الفور، لذلك فهي دائماً مضرة للاقتصاديات التي تعتمد على الاقتراض لتنمية مشروعاتها طويلة الأجل، لأنه عندما يحل وقت سداد فائدتها، تضغط على ميزانية الدولة للحصول على الفائدة، وتؤدي في النهاية إلى توقف المشروع، إضافة إلى أنها عندما تدخل تستهدف أسعار فائدة مرتفعة، فإذا اتجهت الدولة إلى خفض أسعار الفائدة فأول رد فعل لها هو الخروج.