وول ستريت
وول ستريتبيزو أرجنتيني shutterstock

الأرجنتين.. نموذج حقيقي لـ"الهيمنة المالية"

تعتبر الأرجنتين مثل قصة الرعب قبل النوم، التي تستخدمها الاقتصادات الأخرى لتخويف بعضها البعض، حيث استمرت في الترنح من العجز عن السداد، إلى التضخم المفرط ثم العودة.

لذا فإن الدول الأخرى قد تستسلم لفكرة أنه لا يوجد شيء يمكن تعلمه من الكارثة الاقتصادية، التي دفعت الشعبوي اليميني المتطرف خافيير مايلي، إلى الفوز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في نهاية الأسبوع الماضي.

وترجع جذور مشاكل الأرجنتين إلى مزيج من الاقتراض الحكومي، والسياسة النقدية المتراخية، والتضخم، وكلها شهدتها بلدان أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، إلى حد ما في السنوات الأخيرة.

لكن ما يميز الأرجنتين ليس اقتصاديا بقدر ما هو سياسي: فبنكها المركزي يخضع بالكامل للخزانة، وهو مزيج يطلق عليه الاقتصاديون "الهيمنة المالية".

وحتى الآن، تبدو هذه مشكلة أرجنتينية في الأغلب. والواقع أن أحد الدروس الإيجابية، التي تم التوصل إليها من الارتفاع الأخير في التضخم، هي أن البنوك المركزية في كل مكان تقريباً سُمِح لها بمكافحته، في ظل أدلة متزايدة على نجاحها. ومع ذلك، في عصر الديون المرتفعة والسياسات الشعبوية، سيكون من الحماقة استبعاد المخاطر تماماً.

إن العجز في ميزانية الأرجنتين، والذي يتوقع جيه بي مورغان أن يبلغ نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، هو في الواقع أصغر كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من نظيره في الولايات المتحدة. والمشكلة هي أن سنوات من سوء الإدارة الاقتصادية، جعلتها غير قادرة على الوصول إلى أسواق رأس المال. ولذلك يقوم البنك المركزي بتمويل العجز، عن طريق شراء الديون الحكومية في السوق المفتوحة والإقراض مباشرة إلى الخزانة.

وقد تعادل طباعة النقود الفعلية حوالي 5% من الناتج المحلي الإجمالي في الأشهر التسعة الأولى من العام، وفقًا لبنك جيه بي مورغان. وعلاوة على ذلك، يخسر البنك المركزي الأموال، لأنه يحصل على فائدة أقل على قروضه للحكومة مقارنة بما يدفعه على السندات التي يصدرها. وإضافة إلى هذه الخسائر، فإن العجز العام في الأرجنتين، سوف يتضخم إلى نحو 14% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، وفقاً لجيه بي مورغان.

وقال إيفان ويرنينغ، وهو خبير اقتصادي أرجنتيني، يعمل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إن الحساب بسيط: إن طباعة ما يكفي من النقود لتمويل عجز قدره 5% من الناتج المحلي الإجمالي، يتطلب توسيع القاعدة النقدية (مثل العملة) بمقدار مماثل"، وبلغ التضخم في الأرجنتين 142% في أكتوبر.

ووعد مايلي بإنهاء التضخم عن طريق استبدال البيزو بالدولار، وإلغاء البنك المركزي، حيث إن الدولرة تجعل من المستحيل تمويل العجز عن طريق طباعة النقود. والدول الأخرى التي اعتمدت الدولار، بما في ذلك الإكوادور والسلفادور، أنهت التضخم.

ولكن هناك مشاكل، فأولاً قد لا يوافق الكونغرس، الذي تسيطر عليه أحزاب المعارضة. وثانياً، من غير الواضح من أين ستحصل الأرجنتين على الدولارات اللازمة، لتحل محل البيزو مع عدم القدرة على الوصول إلى رأس المال الأجنبي الخاص وعجز الحساب الجاري، (وهو ما يستلزم استنزافا صافيا للعملة الأجنبية لتغطية تكاليف الواردات والفوائد على الديون الخارجية).

وأخيراً، فإن الدولرة لن تقضي على المشكلة الأساسية المتمثلة في العجز الحكومي.

والأرجنتين "المدولرة" التي لم تنجح في خفض عجزها، سوف تتخلف عن السداد في نهاية المطاف. ومن عام 1991 إلى عام 2002، كان لدى الأرجنتين مجلس عملة، وهو شكل من أشكال الدولرة، والذي بموجبه كان البيزو والدولار قابلين للتحويل مقابل واحد، ويتم تداولهما جنباً إلى جنب. واقترضت الحكومة والقطاع الخاص بكثافة بالدولار، لكن العجز المتزايد في التجارة والميزانية، أدى إلى تقويض الثقة في قدرتهما على السداد. وفي النهاية انكسر ربط العملة وانهار اقتصاد الأرجنتين.

واعتاد العديد من الأسواق الناشئة على مشاركة تاريخ الأرجنتين في الاقتراض المتهور، والتضخم المفرط والأزمات. وقد تخلى معظمها عن ذلك في العقود القليلة الماضية، من خلال تمكين البنوك المركزية المستقلة، من استهداف التضخم المنخفض. وهدد ارتفاع الأسعار الذي أعقب الوباء والغزو الروسي لأوكرانيا بإبطال هذا التقدم. ومع ذلك، قامت البنوك المركزية في الأسواق الناشئة، برفع أسعار الفائدة بقوة وتوجيه التضخم نحو الانخفاض.

والولايات المتحدة هي نقيض الأرجنتين: فهي تتمتع ببنك مركزي مستقل، وتعرضها لتقلبات العملة ضئيل، وقدرتها على الوصول إلى أسواق رأس المال لا مثيل لها. وصحيح أن الكونغرس أصدر في الفترة 2020-2021 ديوناً بتريليونات الدولارات، لكن اشترى بنك الاحتياطي الفيدرالي بعضها، بموجب برنامج التيسير الكمي لتخفيف شروط الاقتراض.

وبحلول أوائل عام 2021، ارتفع المعروض النقدي بمعناه الواسع بنسبة 25%، مقارنة بالعام السابق، في إشارة إلى تلميح بأن الطلب كان ينمو بسرعة كبيرة للغاية، بحيث لا يمكن للعرض أن يواكبه، وارتفعت الأسعار. ومع ذلك، إذا كانت هذه هي الهيمنة المالية، فإنها لم تدم طويلاً. حيث انتهى التحفيز، ورفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، وينكمش المعروض النقدي الآن، ويقترب التضخم من هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2%.

ويعتقد بعض الاقتصاديين أن التضخم سوف ينتعش، وقال إريك ليبر من جامعة فيرجينيا: "إننا نرى أن مدفوعات الفائدة بدأت في الانفجار، وليس من الواضح أن الكونغرس سيدفع الثمن عن طريق خفض الإنفاق أو زيادة الضرائب. كما أن المزايدة الباهتة في المزادات الأخيرة لديون الخزانة، هي "مؤشر مبكر للغاية على قلق الناس بشأن احتمال الهيمنة المالية".

وقال إنه من خلال رفع أسعار الفائدة، فإن بنك الاحتياطي الفيدرالي، يؤدي ببساطة إلى تفاقم العجز، مما يضمن عودة التضخم في المستقبل. "الأمر أصبح يشبه حلقة مفرغة."

ومع ذلك، يعتقد معظم الاقتصاديين الآخرين أن الهيمنة المالية لا يمكن أن تحدث، ما لم يذعن بنك الاحتياطي الفيدرالي للضغوط السياسية. ومع ذلك، لم يعترض الرئيس بايدن ولا المحافظون، الذين عينهم في مجلس الاحتياطي الفيدرالي على زيادات أسعار الفائدة.

وفي فترة ولايته، ضغط الرئيس السابق دونالد ترامب على بنك الاحتياطي الفيدرالي، لخفض أسعار الفائدة وألمح إلى أنه إذا عاد إلى منصبه، فقد يفعل ذلك مرة أخرى، لكن هذا قد لا يكون في مصلحته، حيث أثبت العامان الماضيان، أنه لا شيء يلحق الضرر بشعبية الزعيم أكثر من التضخم. ولهذا السبب انتخبت الأرجنتين للتو رئيساً جديداً، وربما تنتخب الولايات المتحدة رئيساً جديداً بعد عام من الآن.

Related Stories

No stories found.
إرم الاقتصادية
www.erembusiness.com