لم يعد غريبا ان تندفع سعاد لدفع مبلغ قدره 15 ألف دولار لعملية شفط دهون، بينما لا يتجاوز مرتبها الشهري 3 آلاف دولار، وتتحفز بذات الوقت للحصول على قرض أو مساعدة لاستكمال عملية نحت الجسم بالليزر ثلاثي الأبعاد في إحدى عيادات دبي، تبلغ بالمتوسط 5 آلاف دولار.
هنا تقف النظرية السلوكية الاقتصادية التقليدية عاجزة عن تفسير هذه الظاهرة مكتفية بالتباين المعروف بوصف المستهلك الرشيد وغير الرشيد.
ولكن ذات المدرسة في الاقتصاد ما بعد الكلاسيكي تشير إلى نظرية العرض الفعال والتي تقوم على خلق حاجة لدى المستهلك تجاه منتج بالأصل لم يكن في سلم الاحتياجات المعروف ب هرم ماسلو.
وخلال العقدين السابقين ازدهرت صناعة التجميل كثيرا لتتحول بسرعة كبيرة إلى تجارة التجميل، وشتان هنا بين الصناعة والتجارة، بمعنى الفرق بين تكوين القيمة ونقل القيمة، الأمر الذي أدى إلى سلوك غير عقلاني واندفاع شديد وفق سلوك Bull behavior الذي كانت تختص به البورصات الكبرى فقط.
اندفعت ملايين السيدات لعمليات التجميل رغم التكاليف الكبيرة، مما أدى إلى تحليق كبير لأسعار المواد الأساسية مثل البوتوكس والفيلر والميزوثيرابي، وارتفاع الأجور لدى الأطباء المختصين وغير المختصين أحيانا، لتصل تكاليف عملية تجميل بسيطة في السعودية إلى متوسطات من 6 - 12 ألف ريال في عمليات الوجه العادية، تماثلها نفس الأرقام لعمليات شفط الدهون، ولكن بالدولار الأميركي أي بثلاثة أضعاف.
لم يتوقف الأمر على فئة النساء، بل امتد بقدر كبير للرجال، بتأثير البروباغاندا، من خلال بناء الصورة النمطية للشخصيات المشهورة رياضيا وفنيا وحتى سياسيا، المتمثلة بالإشراقة الدائمة والشباب المتجدد.
هذا الأمر أدى إلى إنفاق كبير على مستحضرات التجميل وعملياتها، لينفق العرب أرقاما بالمليارات خلال العام الماضي على عمليات وأنشطة التجميل المختلفة، وذلك من خلال معدل نمو لهذا القطاع بلغ على مستوى بلدان المنطقة 11% على أساس سنوي، وهذا ما لم يحققه أي قطاع اقتصادي في كافة بلدان المنطقة العربية، حيث وصلت تكلفة عملية التجميل في ليبيا التي ترزح تحت واقع اقتصادي صعب نتيجة الخلافات السياسية والأمنية إلى أرقام تتجاوز 3 آلاف دولار للعملية، وكذلك في اليمن لذات العمليات بمبالغ تفوق نصف مليون ريال يمني، و بقيت الأسعار في عُمان والإمارات محلقة عاليا بالأسعار التي تتراوح بين 6 - 20 ألفًا، حسب جودة المواد، وطبيعة العملية، والاسم التجاري لمركز التجميل.
ورغم عدم وجود أرقام دقيقة تدل على حجم وعدد هذه العمليات، بسبب التداخل ما بين مفهوم الجراحة الجلدية والجراحة التعويضية ومفهوم الجراحة التجميلية، لكن من خلال أرقام تقريبية تتحدث عن 140 ألف عملية في إحدى الدول الخليجية تقول بعض المصادر إنها تجاوزت 350 ألف عملية، قام بنصفها القطاع الخاص.
لم يقتصر الأمر على الدول العربية ذات الدخل العالي، بل تعداه إلى تلك الدول التي تبحث عن أي موارد إضافية لتلبية احتياجات المواطنين، إذ نجدها لا تقل إنفاقا عن الدول الثرية.
مثلاً في سوريا التي يتقلب فيها سعر الصرف يوميا بمستوى حاد، كما حدث منذ شهر عندما ارتفع سعر الدولار مقابل الليرة السورية 50% دفعة واحدة وبقرار واحد في السوق النظامية، غير أن انعكاس ذلك على الأسعار لم يؤثر على الطلب المتزايد، فبقيت عمليات تجميل الأنف تتراوح بين 500 و700 دولار، في بلد يبلغ أعلى راتب لموظف فيه 25 دولارا.
وفي تركيا البلد الذي تتعرض عملته المحلية لضغوط من الأداء الاقتصادي، ما زالت عملية شد الوجه تصل إلى 4 آلاف دولار، وشد البطن 3500 دولار، وتبقى أسعار بوتوكس وفيلر تشبه مثيلاتها في سورية وإيران و مصر، أي بين 200 إلى 400 دولار حسب منشأ المادة.
ورغم ضخامة هذه الأرقام إلا أن نسبتها ما زالت ضئيلة قياسا للأرقام العالمية، والتي بلغت 17 مليون عملية تجميلية غير جراحية، كانت للبرازيل ثم الولايات المتحدة والمكسيك والهند وتركيا على التوالي النصيب الأكبر.
وكانت العمليات المرتبطة لتكبير الثدي وشفط الدهون حصة الأسد منها، ليصبح التطور والتعدد كبيرا ومذهلا، وأصبح هذا القطاع مستقلا بذاته عن كونه قطاعا طبيا صحيا.
إن الدول العربية بحاجة ماسة إلى عمليات ترميم وعلاج اقتصادي لخلق النمو المتزايد في قطاعاتها الإنتاجية والاقتصادية، وتوسيع خيارات التنمية لديها، وحشد الموارد البشرية والمادية للعمل بكفاءة استثمارية عالية، غني عن الشرح أن قطاع العمليات التجميلية هو قطاع ربحي ريعي، لكنه ليس إنتاجيا، ولكي يصبح ذا فعالية إنتاجية يجب أن تكون دولنا مصنعة ومصدرة للمواد الطبية وللخبرات الخاصة بهذا الشأن.