تعتبر العملة الرقمية المستقرة USDT التي تصدرها شركة «تيذر» عنصراً أساسياً في اقتصاد موازٍ يعمل خارج نطاق سلطات إنفاذ القانون الأميركية. وفقاً لتقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، فإن هذا النظام الضخم غير المنظم يشكل تهديداً لجهود الولايات المتحدة في مواجهة منتهكي العقوبات، والمجرمين الماليين.
في العام الماضي فقط، تدفقت من خلال «تيذر» مبالغ مالية تقارب تلك التي تم تداولها عبر شبكة المدفوعات العالمية لشركة «فيزا». ورغم أن «تيذر» لا تتجاوز 100 موظف، فإنها تفوقت على شركة «بلاك روك»، عملاق المال، من حيث الأرباح، مسجلة 6.2 مليار دولار في عام 2023.
تعتبر «تيذر» عملة رقمية صممت لتكون بمثابة دولار رقمي، حيث تعادل قيمة الدولار الأميركي بنسبة واحد إلى واحد. ورغم أنها تحاكي الدولار في قيمتها، فإنها لا تخضع لرقابة أي بنك مركزي، بل تُدار من جزر فيرجن البريطانية تحت إشراف أفراد خاصين، مع مستويات عالية من السرية وقلة في الرقابة الحكومية.
هذا النقص في التنظيم أتاح لعملة «تيذر» دعم نظام مالي موازٍ، لا سيما في المناطق التي تُفرض فيها عقوبات أو قيود قانونية على الوصول إلى الدولار الأميركي.
وفي ظل العقوبات الأميركية التي تقيّد وصول دول مثل روسيا وفنزويلا وإيران إلى النظام المالي العالمي، تُستخدم «تيذر» كوسيلة لتجاوز تلك القيود، فهي تسهم في تمويل الشركات الروسية المعاقبة؛ ما يسهل عليها نقل الأموال دولياً رغم القيود المفروضة.
رغم استخدامها في أنشطة مثيرة للجدل، فقد أصبحت «تيذر» أحد أبرز النجاحات التي نشأت من ثورة العملات الرقمية. فقد أسهمت هذه العملة في تحقيق ثروات كبيرة لمشغليها، بمن في ذلك الرئيس التنفيذي باولو أردوينو.
في عام 2023، كانت «تيذر» تدير أصولاً تقدر بنحو 120 مليار دولار، معظمها مستثمر في سندات الخزانة الأميركية. وفي وقت سابق من هذا العام، تفاخر أردوينو بأن «تيذر» حققت أعلى أرباح لكل موظف مقارنة بأي شركة في التاريخ. كما ادعى أن أكثر من 300 مليون شخص يستخدمون «تيذر»، ما يبرز مدى انتشارها الواسع على مستوى العالم.
تُعد العقوبات المالية الأميركية أداة رئيسة في السياسة الخارجية لواشنطن، إذ تُمكنها من استهداف خصوم مثل إيران وفنزويلا وروسيا من خلال قطع الوصول إلى النظام المالي القائم على الدولار الأميركي، الذي يشكل جزءاً كبيراً من الاقتصاد العالمي.
تستفيد الولايات المتحدة من القوة التي تمنحها إياها السيطرة على النظام المالي العالمي، إذ تمر جميع المعاملات بالدولار عبر بنوك خاضعة للتنظيم الأميركي. ولكن عملة «تيذر» تهدد هذه الهيمنة، إذ تعمل خارج نطاق الولاية القضائية الأميركية، وتتيح تحويلات فورية ومجهولة الهوية، ما يمكّن الكيانات الخاضعة للعقوبات من التهرب من القيود المفروضة من قبل النظام المصرفي التقليدي.
في شهادة قدمها أمام الكونغرس في أبريل، حذر نائب وزير الخزانة الأميركي والي أدييمو من المخاطر التي تشكلها عملة «تيذر»، داعياً إلى وضع إطار تنظيمي يقيّد مزودي العملات المستقرة المدعومة بالدولار، مثل «تيذر»، ويمنعهم من التلاعب بالقواعد المختلفة.
من جانبها، تؤكد «تيذر» أنها تتعاون بشكل كامل مع السلطات الأمنية، وقد جمدت محافظ رقمية مرتبطة بأفراد خاضعين للعقوبات. ووفقاً لبيانات من شركة «تشين أرغوس»، قامت «تيذر» بحظر أكثر من 2700 محفظة على شبكاتها الرئيسة. ومع ذلك، من أصل 153 مليار دولار مرت عبر هذه المحافظ، تمكنت «تيذر» من تجميد 1.4 مليار دولار فقط قبل أن تُنقل الأموال إلى وجهات أخرى.
بدأت رحلة صعود «تيذر» في عام 2014 عندما أسس مجموعة من المستثمرين، بمن في ذلك الجراح التجميلي السابق جيانكارلو ديفاسيني، الشركة. في البداية، كانت «تيذر» منتجاً محدود الانتشار يقتصر على تجار العملات الرقمية، ولكنها اكتسبت شهرة واسعة خلال طفرة العملات الرقمية بين عامي 2020 و2021، حيث قفزت قيمتها السوقية من 4 مليارات دولار إلى نحو 80 مليار دولار.
بوصفها عملة مستقرة، قدمت «تيذر» ملاذاً آمناً للتجار الذين يبحثون عن حماية من تقلبات العملات الرقمية الأخرى؛ ما عزز مكانتها في النظام المالي العالمي. تعمل «تيذر» من خلال آلية بسيطة ولكن فعالة؛ ما أسهم في تعزيز استخدامها وانتشارها بشكل كبير.
تقوم شركة «تيذر هولدينغز»، التي تقف وراء العملة الرقمية «تيذر»، بإصدار هذه العملة لعملاء مباشرين، غالبيتهم من الشركات التجارية الكبرى، مقابل دولارات حقيقية. يتم استثمار تلك الدولارات في أصول مثل سندات الخزانة الأميركية، ما يضمن ارتباط قيمة «تيذر» بالدولار الأميركي.
بمجرد دخولها إلى السوق، يمكن تداول «تيذر» مقابل عملات رقمية أخرى أو عملات تقليدية عبر منصات التداول، أو من خلال وسطاء محليين.
ورغم الجهود المبذولة لمراقبة عملائها المباشرين، يشير التقرير إلى أن جزءاً كبيراً من سوق «تيذر» الثانوية يظل غير منظم. إذ يمكن تحويل العملة الرقمية بسهولة عبر سلاسل من المحافظ الرقمية؛ ما يجعل من الصعب على السلطات تتبع مصدرها.
وجدت عملة «تيذر» قاعدة مستخدمين واسعة في فنزويلا، وخاصة داخل الحكومة. منذ عام 2020، أصبحت فنزويلا تحت حكم الرئيس نيكولاس مادورو معزولة بشكل متزايد نتيجة للعقوبات الأميركية التي تستهدف قطاع النفط في البلاد.
لمواجهة هذه العقوبات، أصدرت حكومة مادورو في عام 2020 «قانون مكافحة الحصار»، الذي سمح باستخدام العملات الرقمية مثل «تيذر» لتعزيز المعاملات المالية للبلاد. بدأت شركة النفط الفنزويلية المملوكة للدولة، «بتروليوس دي فنزويلا»، في مطالبة المشترين بدفع ثمن شحنات النفط باستخدام «تيذر»، حيث كانت أوامر الشراء تشير إلى عناوين محافظ محددة لتحويل العملة الرقمية إليها؛ ما مكن الحكومة من تلقي الأموال دون الحاجة إلى القنوات المصرفية التقليدية.
أسهم الوسطاء بشكل كبير في هذا النظام من خلال تبادل النقود بـ«تيذر» وتحويل الرموز الرقمية إلى بطاقات سفر مسبقة الدفع، والتي كانت تُستخدم لإجراء عمليات شراء خارج البلاد.
ومع ذلك، فإن الاستخدام الواسع لـ«تيذر» أدى إلى فتح أبواب الفساد، فقد أفادت تقارير بأن الوسطاء المتورطين في مبيعات النفط استخدموا «تيذر» لتحويل مبالغ كبيرة من الأموال، ما ساعدهم على إخفاء أنشطتهم.
وقد أسفرت هذه الأنشطة الفاسدة في النهاية عن استقالة وزير النفط الفنزويلي، الذي وُجهت إليه تهم بالمشاركة في هذه المخططات.
في روسيا، أصبحت عملة «تيذر» أداة أساسية لتجاوز العقوبات الأميركية والأوروبية عليها. وفقاً لتقرير سري أعده مركز بحثي روسي مدعوم من الحكومة، فإن العملة الرقمية تُستخدم على نطاق واسع من قبل المستوردين لتحويل الروبلات إلى عملات أجنبية. حتى المؤسسات المالية الكبرى مثل «روزبنك»، أحد البنوك الروسية، تسهّل تحويلات «تيذر» لعملائها، ما يساعدهم على تجاوز العقوبات عبر الدفع للموردين في الخارج باستخدام هذه العملة الرقمية.
كما تحولت النخب الروسية إلى «تيذر» للحفاظ على ثرواتهم. حيث قامت إيكاترينا جدانوفا، وكيلة سفريات فاخرة، بتنظيم صفقات كبيرة لتبادل الروبل بـ«تيذر» لعملائها في عامي 2022 و2023، ما يعكس استخدام العملة الرقمية على نطاق واسع بين الأثرياء الروس.
وفقاً للبيانات، قامت المحافظ الرقمية المرتبطة بـ«تيذر» بتحويل أكثر من 350 مليون دولار من العملة الرقمية. ومع ذلك، لفتت هذه الأنشطة انتباه السلطات الأميركية، حيث قامت وزارة الخزانة الأميركية في أواخر عام 2023 بفرض عقوبات على الأطراف المعنية، بتهمة تسهيل تحويلات العملات المشفرة لصالح الأوليغارشية الروسية.
بدأت «تيذر» بدعم الشركات الناشئة التي تعتمد على العملة الرقمية في المدفوعات اليومية. من بين هذه الشركات، «سيتي باي دوت آي أو»، وهي شركة جورجية طورت أنظمة دفع تعتمد على «تيذر»، تخدم آلاف الشركات بما في ذلك فنادق كبرى في وسط العاصمة تبليسي.
تعاونت «سيتي باي» أيضاً مع مشروع عقاري لبيع شقق فاخرة باستخدام «تيذر» كوسيلة دفع. بالإضافة إلى ذلك، تُمكّن الشركة الشركات من إجراء مدفوعات دولية عبر «تيذر»، حيث تصل هذه المدفوعات إلى 50 مليون دولار شهرياً، وفقاً لرئيسها التنفيذي التركي إرالب حتيب أوغلو.
يشير حتيب أوغلو إلى أن الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على النظام المصرفي العالمي قد أوجدت فرصاً للشركة. فعلى سبيل المثال، تواجه الشركات التي تصدر بضائع من تركيا إلى جورجيا صعوبات مع البنوك الوسيطة، وتستغرق الحوالات البنكية التقليدية عدة أيام، ما يجعل استخدام «تيذر» بديلاً فعالاً وسريعاً.
أعلنت «تيذر» أنها تسعى لتوسيع استخدام «سيتي باي» في أسواق ناشئة أخرى، وفي مؤتمر للعملات الرقمية أقيم في تبليسي في يونيو 2024، برعاية «تيذر» وحضور رئيس قسم التوسع في الشركة، تم الترويج لاستخدام العملة الرقمية في المدفوعات اليومية.
وأفاد تقرير بأن الحضور اصطفوا لشراء القهوة باستخدام «تيذر»، ما يعكس تزايد اعتماد العملة الرقمية في المعاملات اليومية.