في ظل التحولات الاقتصادية العالمية، تواجه الصفقات الضخمة تحديات غير مسبوقة، مما يثير تساؤلات حول مستقبل عمليات الدمج والاستحواذ الكبرى، وفقاً لتقرير نشرته مجلة «إيكونوميست» البريطانية.
من بين هذه الصفقات، استحواذ شركة «نيبون ستيل» اليابانية على «يو إس ستيل» الأميركية، الذي كان من المتوقع أن يكون الأكبر في القطاع الصناعي. إلا أن الصفقة تواجه ضغوطاً سياسية شديدة من الولايات المتحدة، حيث تزايدت معارضة الرئيس الأميركي جو بايدن وخصومه السياسيين.
تأتي هذه التطورات في وقت أصبح فيه مستقبل الصفقات الكبرى في مهب الريح؛ مما يطرح تساؤلات حول قدرة الشركات على تحقيق أهدافها التوسعية في ظل الأوضاع الحالية.
خلال حملتها الانتخابية في بيتسبرغ في بداية الشهر، صرحت كامالا هاريس، مرشحة الحزب الديمقراطي لرئاسة الولايات المتحدة، أن على شركة «يو إس ستيل» أن تبقى مملوكة، وتدار من قبل الأميركيين، معبرة عن موقف مشابه لما كان قد عبر عنه سابقاً كل من الرئيس جو بايدن ومنافسها الجمهوري دونالد ترامب.
أثار هذا الخطاب رد فعل الشركة، التي كانت قد وافقت على الاستحواذ مقابل 15 مليار دولار، وقالت إن العمال كانوا يدعمون الصفقة، مهدّدة بتسريح العمال ونقل مقرها الرئيسي من المدينة في حالة انهيار عملية الاستحواذ.
وتوقع التقرير أن يقوم بايدن بمنع الصفقة قريباً، والذي تسبب في انهيار سعر سهم الشركة، مبيناً أن هذا التدخل قد يشكل نهاية لفصل شغل المحامين والمصرفيين وجماعات الضغط على مدار العام.
ولم تكن هذه سوى واحدة من عدة صفقات عالمية متعثرة، مما يعكس واقعاً جديداً يحد من طموحات الشركات في التوسع عبر الاندماجات الكبرى، وسط تحديات تنظيمية وسياسية متصاعدة.
ففي شهر مايو، أوقفت شركة «بي إتش بي»، عملاق السلع الأساسية، سعيها للاستحواذ على شركة «أنغلو أميركان» بعد أن أثار قرار تصفية أعمال «أنغلو» في جنوب أفريقيا عاصفة سياسية.
كما أن محاولة الاستحواذ العدائية على بنك «ساباديل» الإسباني من قبل منافسه الأكبر «بي بي في إيه» أثارت حماس المصرفيين في أوروبا، ولكن المحاولة اصبحت غارقة في السياسات المحلية.
وهذا الأسبوع، نظرت محكمة في بورتلاند بولاية أوريغون في الحجج المقدمة من لجنة التجارة الفيدرالية حول منع اندماج شركتي «ألبرتسونز» و«كروغر» الأمريكيتين للبقالة؛ لأنه سيؤدي إلى رفع الأسعار.
وفي اليابان، التي تُعد عادة ملاذاً آمناً من عمليات الاستحواذ العدائية، رفضت شركة التجزئة «سفن آند إي» عرضاً من شركة كندية، مما أوقف ما كان سيكون أكبر استحواذ أجنبي على شركة يابانية.
وأشار التقرير إلى غرابة انهيار الصفقات الضخمة في هذا الوقت، خاصة بعد أن أصبح المدراء التنفيذيون والممولون أكثر تفاؤلاً. فقد بدأت الشركات تعود بحذر إلى طاولة المفاوضات بعد جفاف في عمليات الدمج والاستحواذ بدأ عندما رفعت البنوك المركزية أسعار الفائدة في عام 2022. وعلى الرغم من أن قيمة عمليات الدمج والاستحواذ المعلنة عالميًا لا تزال أقل بنسبة 17% من متوسط السنوات العشر الماضية في هذا الوقت من العام، إلا أنها ارتفعت من 29٪ أقل من المتوسط في العام الماضي.
وبحسب التقرير، هناك العديد من العوامل التي من المفترض أن تؤدي إلى موجة من الصفقات الضخمة، فقد ازدهرت أسواق الأسهم، ورغم أن هذا يجعل أهداف الاستحواذ أكثر تكلفة، إلا أن مثل هذا التفاؤل غالباً ما يبشر بزيادة في الصفقات الكبيرة.
كما أن ميزانيات الشركات مليئة بالسيولة، والفجوة بين العوائد على السندات الحكومية وسندات الشركات قد ضاقت، مما يجعل الاقتراض لتمويل الصفقات أكثر جاذبية. في الوقت نفسه، أصبحت الاستخدامات الأخرى لأرباح الشركات أقل جاذبية مما كانت عليه قبل عام، فإعادة شراء الأسهم المبالغ في قيمتها يؤدي إلى تدمير القيمة للمستثمرين على المدى الطويل، الذين لا يتحمسون أيضًا لفكرة سداد الشركات للديون. هذا فضلًا عن رؤوس الأموال الضخمة المخصصة لصناديق الأسهم الخاصة التي لم تُستخدم بعد في صفقات الشراء.
ويتوقع المصرفيون الاستثماريون، الذين كانوا في حالة من "التفاؤل الحذر"، العديد من الصفقات الضخمة الآن. وتدل أسعار أسهم البنوك الاستثمارية المرتفعة مثل «بي جي تي بارتنرز» و«إيفر كور»، اللذين غالبًا ما يلعبان دورًا رئيسيًا في استشارات الصفقات الكبرى، على توقعات إيجابية من المستثمرين بشأن عدد ونوعية الصفقات التي قد تستشار فيها هذه البنوك في المستقبل.
وفي قطاع واحد، تحققت التوقعات بشأن حدوث صفقات كبيرة بالفعل. ففي أكتوبر 2023، وافقت شركة «إكسون موبيل» على صفقة بقيمة 65 مليار دولار لشراء شركة «بايونير»، وهي عملاق في مجال التكسير الهيدروليكي. وبعد أيام، وافقت «شيفرون» على الاستحواذ على شركة «هيس»، وهي شركة عالمية تعمل في مجال النفط والغاز، مقابل 60 مليار دولار.
استمرت موجة الاندماج بين شركات النفط الأميركية منذ ذلك الحين بوتيرة سريعة. ويراهن المحللون على أن الطلب على المعادن «الخضراء» مثل النحاس قد يجعل شركات التعدين تشهد موجة مشابهة من الصفقات بعد سنوات من الانضباط المالي. ومن الأهداف المحتملة الأخرى التي تُناقش بشكل متكرر شركات مدرجة في سوق الأسهم البريطانية المتعثرة والمقومة بأقل من قيمتها، والشركات اليابانية التي تمر بإصلاحات في حوكمة السوق.
ومع ذلك، أكد التقرير أن سلسلة الصفقات الفاشلة تعكس الواقع أكثر من حالة الاندماج في قطاع النفط. فالتباطؤ الاقتصادي وعدم اليقين الانتخابي في أميركا يهددان بتوسيع الفجوة بين المشترين والبائعين. وبمنظور أوسع، فإن الوضع العام للاقتصاد يظهر حالة من الركود الذي يؤثر على النشاط الاقتصادي.
وعلى الرغم من ارتفاع أرباح الشركات وتقييماتها خلال العقدين الماضيين، إلا أن عدد الصفقات الكبيرة لم يزد. فمنذ عام 2004، تضاعف عدد الشركات الأميركية والأوروبية المدرجة التي تزيد قيمتها على 10 مليارات دولار، ولكن الصفقات العالمية التي تزيد قيمتها على 10 مليارات دولار بقيت تشكل نسبة ضئيلة من إجمالي قيمة الصفقات، حيث تبلغ حوالي الخُمس. وعلى الرغم من النمو السريع في الأسواق الخاصة في السنوات الأخيرة، إلا أن أكبر عمليات الشراء ما زالت تعود إلى ما قبل الأزمة المالية العالمية في 2007-2009.
وتساءل التقرير عن سبب تراجع الصفقات الضخمة، مبيناً إحدى النظريات وهي أن المديرين التنفيذيين قد تعلموا من المغامرات السابقة التي تسببت في عدم تحقيق الأهداف المرجوة. ووفقاً لمراجعة أدبية أجراها جيف وجي جاي ميكس من جامعة كامبريدج، خلصت خُمس الدراسات فقط إلى أن الصفقة العادية تؤدي إلى تحقيق أرباح مجمعة أعلى أو زيادة ثروة مساهمي المستحوذ.
وكمثال على ذلك، يتم تدريس صفقة شراء «تايم وارنر» بقيمة 165 مليار دولار التي قامت بها «إيه أو إل»، وهي شركة إنترنت تضخمت بسبب فقاعة الدوت كوم في عام 2001، في كليات إدارة الأعمال كنموذج للمغامرة في الصفقات. وفي عام 2007، استحوذت شركة «تي إكس يو»، وهي شركة أميركية متخصصة في مجال الطاقة، في أكبر عملية شراء بالاستدانة على الإطلاق، لكنها تقدمت بطلب إفلاس بعد أقل من سبع سنوات.
ومع ذلك، أوضح التقرير أن هذا التفسير يقلل من تقدير المكافآت المالية التي يجنيها المديرون التنفيذيون من إدارة الشركات الكبرى، ويبالغ في تقدير الوقت الذي يقضونه لدراسة الأخطاء والتجارب السابقة. فبعض المديرين التنفيذيين محكوم عليهم بتكرار أخطاء أسلافهم، أو على الأقل يقررون أن أفضل طريقة لتصحيحها هي عقد المزيد من الصفقات.
واستشهد التقرير بما يشاع عن شركة «وارنر براذرز ديسكفري»، وهي عملاق إعلامي أميركي تم تشكيله في أبريل 2022 من خلال اندماج «ديسكفري» و«وارنر ميديا» وريث «تايم وارنر»، بأنها تفكر في الانفصال. وفي 5 سبتمبر، أعلنت شركة «فيريزون»، عملاق الاتصالات الذي يتشارك في أصول مشتركة مع «أي تي آند تي»، المالك السابق لشركة «وارنر ميديا»، أنها ستدفع 20 مليار دولار مقابل شراء شركة «فرونتير»، مستحوذة على أصول باعتها في عام 2016.
التفسير الأفضل لذلك، بحسب التقرير، هو أن المستثمرين أصبحوا أكثر تشككاً في بناء الإمبراطوريات، مما كانوا عليه في الماضي، فقد أصبحت الشركات العالمية الضخمة غير مرغوب فيها تماماً. وكمثال على ذلك، أكملت شركة «جنرال إلكتريك»، التي كانت أيقونة صناعية، هذا العام انقسامها إلى ثلاث شركات منفصلة. وشركة «فودافون»، التي نفذت إحدى أكبر عمليات الاستحواذ في التاريخ عندما استحوذت على «مانسمان» في عام 2000، فتقوم ببيع عملياتها التجارية اليوم بهدوء.
أما شركات التكنولوجيا التي حلت محل الإمبراطوريات المالية والصناعية والاتصالات باعتبارها الشركات الأكثر قيمة في العالم، فلم تُظهر الرغبة نفسها في المخاطرة بأعمالها من خلال صفقات ضخمة؛ لذا، فإن أهم تحركات شركات التكنولوجيا الكبرى اليوم تتضمن استثمارات صغيرة نسبياً في الشركات الناشئة المتخصصة في الذكاء الاصطناعي.
وتعتبر السياسة العائق الأكبر أمام الصفقات الضخمة اليوم، إذ أكد التقرير أن الشك في الشركات الكبرى عبر الطيف السياسي أدى إلى تفكير أكثر تشدداً وأقل قابلية للتنبؤ بشأن مكافحة الاحتكار.
وحتى عندما تفوز الشركات في معارك قانونية مع الجهات التنظيمية، مثلما حدث مع «مايكروسوفت» في استحواذها على شركة «أكتيفجن» بقيمة 69 مليار دولار، فإنها تواجه فترات طويلة من عدم اليقين بين توقيع الصفقة وإتمامها، مما يجعلها أقل ميلًا لملاحقة الصفقات في المقام الأول. وقد استغرق استحواذ «مايكروسوفت» على مطور الألعاب ما يقرب من 21 شهراً، بينما ستحتفل صفقة اندماج «كروغر» و«ألبرتسونز» قريباً بعيدها الثاني دون إتمامها.
وأوضح التقرير أن العائق أمام الصفقات عبر الحدود ارتفع أيضاً، فالأمن القومي يشكل تهديداً لا يقل أهمية عن القلق من الاحتكار. ونتيجة لذلك، أصبحت لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة (CFIUS)، وهي هيئة تنظيمية أميركية تشرف على الصفقات الأجنبية، أكثر حزماً في السنوات الأخيرة. كما انتشرت قواعد مماثلة على مستوى العالم، مما يعني أن على صانعي الصفقات أن يتنقلوا بين تعريف متوسع للأمن القومي ومجموعة من اللوائح.