في مشهد اقتصادي عالمي يتسم بالتنافسية والتحوّل السريع، تسعى مملكة البحرين إلى ترسيخ موقعها كوجهة جاذبة للشركات العاملة في قطاعي التكنولوجيا والخدمات المالية، مستندة إلى نموذج اقتصادي يقوم على الكفاءة التشغيلية، وتوظيف الوفورات كقيمة مضافة حقيقية.
وفق تقرير حديث صادر عن شركة «إيرنست أند يونغ» (EY)، تبرز البحرين كواحدة من أقل الدول الخليجية في كلفة ممارسة الأعمال في قطاع الخدمات المالية، بنسبة انخفاض تصل إلى 48% مقارنة بالمتوسط الإقليمي.
هذا الرقم اللافت ليس مجرّد ميزة سعرية، بل يعكس استراتيجية اقتصادية يقودها مجلس التنمية الاقتصادية البحريني، تهدف إلى تحويل وفورات التكاليف إلى استثمارات حقيقية في رأس المال البشري والرقمنة.
يشير التقرير إلى أن المملكة توفر ما يصل إلى 85% من الرسوم السنوية للأعمال والتراخيص مقارنة ببعض الأسواق الإقليمية، ما يخفض الحاجز المالي لدخول السوق، ويفتح المجال أمام الشركات الناشئة والصغيرة للانطلاق بثقة، كما يسمح للشركات الكبرى بإعادة توجيه رأس المال إلى الأنشطة الأساسية بدلاً من النفقات الإدارية.
يؤكد الخبير الاقتصادي والمحلل الاستثماري في مملكة البحرين، أسامة معين، أن هذا النموذج يعكس «تفكيراً استراتيجياً لا يكتفي بتقليل التكاليف، بل يسعى إلى توظيف هذه الوفورات في مجالات إنتاجية تعزز من مكانة البحرين كمركز مالي ذكي».
ضمن أبرز محاور التنافسية، يُظهر التقرير انخفاضاً بنسبة 24% في تكاليف العمالة عن المتوسط الخليجي. فعلى سبيل المثال، إذا كانت شركة تكنولوجيا مالية (FinTech) تدفع راتباً سنوياً قدره 100,000 دولار لمطور برامج متوسط الخبرة في إحدى المدن الإقليمية، فإنها في البحرين قد تدفع ما يقارب 76,000 دولار للكفاءة نفسها.
يوضح معين أن هذا النوع من الوفر لا يُستخدم فقط لتقليل النفقات، بل يُمكن أن يتيح للشركات «توسيع فرق العمل بالميزانية نفسها، أو استثمار الفرق في تطوير البنية التحتية الرقمية والابتكار».
جانب آخر من الجاذبية الاقتصادية يتمثل في كلفة إيجار المكاتب، إذ تتيح البحرين للشركات وفورات تصل إلى 60% في هذا المجال، مقارنة ببعض المناطق الحرة الأخرى. فعلى سبيل المثال، شركة تنفق نحو نصف مليون دولار سنوياً على مقرها الرئيس في مدينة إقليمية أخرى، يمكنها تقليل هذه النفقات بشكل كبير عند نقل مقرها إلى المنامة.
وتُعد هذه الوفورات عاملاً حاسماً في تحسين السيولة النقدية، وتعزيز مرونة الشركات وقدرتها على التوسع، خاصة في القطاعات التقنية سريعة النمو.
يشير الرئيس التنفيذي لتطوير الأعمال في مجلس التنمية الاقتصادية علي المديفع، إلى أن البحرين تجمع بين «الكلفة التنافسية، والبنية التحتية المتقدمة، والتشريعات المرنة»، وهي ثلاثية تمثل جوهر الرؤية الاقتصادية الحالية للمملكة.
يرى المديفع أن البحرين استفادت من وجود جهة تنظيمية واحدة لقطاع الخدمات المالية، هي مصرف البحرين المركزي، لتسريع الإجراءات، ومنح المستثمرين وضوحاً أكبر. هذا النموذج التنظيمي الموحّد يتيح بيئة أكثر سلاسة وكفاءة، ما ينعكس إيجاباً على تجربة الشركات الجديدة والقائمة على حد سواء.
أحد الأسئلة الجوهرية التي تطرحها الاستراتيجية البحرينية هو: كيف يمكن ضمان ألا تتحول ميزة التكلفة إلى مجرد اجتذاب للوظائف منخفضة القيمة؟.
يجيب المديفع بأن «تنمية المواهب المحلية هي حجر الأساس»، مضيفاً أن المملكة تسعى إلى تحويل الوفورات إلى استثمارات في المهارات، وليس إلى أرباح قصيرة الأجل فقط.
يستند هذا التوجه إلى مؤشرات موثوقة، مثل تقرير التنافسية العالمية الصادر عن المعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD)، والذي صنّف البحرين في المرتبة الرابعة عالمياً في العمالة الماهرة، والسادسة في المهارات الرقمية، ما يعكس بنية بشرية متينة قادرة على احتضان الابتكار.
تتجلى هذه الرؤية في شراكات مع شركات عالمية مثل «سيتي» للتكنولوجيا، الذي التزم بتوظيف 1000 مبرمج بحريني، و«جيه بي مورغان»، الذي أعلن عن 200 وظيفة جديدة متخصصة في الخدمات المصرفية الرقمية.
ويعلّق معين على هذه الشراكات، قائلاً: «هذه الشركات لا تبحث عن مجرد تكلفة منخفضة، بل عن بيئة قادرة على دعم عملياتها المستقبلية، واستيعاب التكنولوجيا المتقدمة».
بدلاً من خفض التكاليف بهدف المنافسة فقط، تعمل المملكة على تحويل هذه الوفورات إلى أدوات للنمو، سواء عبر توسعة فرق العمل، أو زيادة الاستثمار في الحلول الرقمية، أو إطلاق مشاريع ابتكارية تُصدر من المنامة إلى الخارج.
ويبقى التحدي الرئيس أمام هذا النموذج هو ضمان استدامة هذا التوجه، وتحويل الأرقام التي تظهر في التقارير إلى نتائج فعلية على الأرض. فإذا نجحت البحرين في توجيه هذه الوفورات نحو بناء منظومة مالية وتقنية قائمة على الابتكار المحلي، فإنها لن تعيد فقط رسم خريطة الخدمات المالية في المنطقة، بل سترسّخ لنموذج اقتصادي خليجي جديد عنوانه: القيمة الأعلى مقابل التكلفة الأذكى.