وترى الباحثة الأميركية ناومي أوريسكس، المتخصصة في تاريخ العلوم، بجامعة هارفارد الأميركية، أن معظم الأميركيين يحرصون على البيئة، كما أن هناك اهتماما شعبيا متزايدا بالهواء النظيف والمياه النقية والمساحات الخضراء، التي تصلح للتنزه والاسترخاء، وبالتالي يلجأ السياسيون غير المعنيين بالبيئة أو المؤيدين للصناعات الملوثة، إلى طرح مثل هذه النوعية من التساؤلات، التي تظهر على غير الحقيقة، أن هناك تعارضا بين حماية البيئة وحماية شيء آخر أكثر أهمية، ألا وهو فرص العمل، وفق وكالة الأنباء الألمانية.
وتقول أوريسكس، في مقال أورده الموقع الإلكتروني "ساينتيفيك أمريكان" المتخصص في الأبحاث العلمية، إنه في ثمانينيات القرن الماضي، بعد إقرار عدة قوانين اتحادية للحفاظ على البيئة مثل قانوني الهواء النظيف، والمياه النظيفة، أشارت بعض الدراسات إلى أن التباطؤ الاقتصادي الذي شاب ذلك العقد يرجع إلى قوانين حماية البيئة، غير أن دراسات عديدة صدرت مؤخرا، أكدت أن حماية البيئة ليس لها مردود سلبي على الاقتصاد.
فقد كشفت إحدى الدراسات، على سبيل المثال، أن معدلات الإنتاجية في مصافي النفط، التي تراعي معايير البيئة في ولاية لوس أنجلوس الأميركية، كانت أعلى من إنتاجية نظيراتها في مناطق أخرى بالولايات المتحدة، وذلك خلال الفترة ما بين 1982 و1992. وخلصت دراسة أخرى إلى أن "الضوابط البيئية ليس لها تأثير كبير على الصناعات المنضبطة"، أي بمعنى آخر أن حماية البيئة لا تقتل الوظائف.
وأضافت أوريسكس أن كثيرا من الوظائف، التي توفرها الصناعات الملوثة للبيئة، لها سمعة سيئة باعتبارها قصيرة الأجل، وتشير في هذا الصدد إلى صناعات تعدين المعادن، التي ترتبط بفترات الازدهار الاقتصادي المؤقت، على غرار حقبة التنقيب عن الذهب في الولايات المتحدة.
ويقول الكاتب الأميركي كولين جيرولماك في كتابه "الصعود إلى الجنة والهبوط إلى الجحيم... صناعات التكسير الهيدروليكي والحرية والمجتمع في البلدات الأميركية" الذي صدر عام 2021، أن العدد الفعلي للوظائف، التي تخلقها مثل هذه الصناعات في كثير من الأحيان، يكون أقل من العدد المعلن، وأن كثيرا منها سريع الزوال.
وخلص تقرير لمركز شال البحثي في الولايات المتحدة، إلى أن "الشركات ذات الاهتمامات الاقتصادية بالتوسع في أعمال التنقيب عن النفط والغاز" وحلفاءها، يبالغون بشكل منهجي في تصوير أهمية هذه الصناعات في توفير فرص العمل.
وذكرت أوريسكس أن غرفة التجارة الأميركية أعلنت عام 2012، أن أنشطة التكسير الهيدروليكي، التي تدخل في مجال استخراج النفط والغاز، خلقت أكثر من 300 ألف فرصة عمل في ولايات بنسلفانيا وأوهايو ووست فيرجينيا، غير أن إدارة العمل والصناعة في ولاية بنسلفانيا، أحصت وجود 18 ألف وظيفة فقط في القطاع الأساسي بهذا النشاط، فضلا عن زهاء 5600 وظيفة أخرى في الصناعات المغذية لها.
ومن جانبه، ذكر معهد "أوهايو ريفر فالي" البحثي غير الربحي، أن جزءا محدودا من عائدات هذه الصناعات، يبقى داخل المجتمعات المحلية. وعلى العكس، توفر أنشطة حماية البيئة فرص عمل للعمالة المحلية، وتعتمد في الغالب على مواد محلية، وتدر عائدات طويلة الأجل لأنها تدعم السياحة والأنشطة الترفيهية.
وتقول الباحثة الأميركية المتخصصة في تاريخ العلوم، إن حماية البيئة تعود بالفائدة على الصحة، وهو ما يصب بدوره لخدمة الاقتصاد، لأن المرضى عادة لا يعملون بشكل جيد، وقد لا يستطيعون الذهاب إلى أعمالهم من الأساس.
وذكرت دراسة نشرتها دورية Science العلمية في نوفمبر الماضي، أن ما يقدر بقرابة نصف مليون حالة وفاة في الولايات المتحدة، ترجع إلى استنشاق الجزيئات الدقيقة الملوثة للهواء، التي تنبعث من محطات توليد الكهرباء من الفحم خلال الفترة ما بين 1999 و2020.
ومثلما تأكد للعلماء والباحثين أن التعرض للكيماويات السامة وملوثات الهواء، ينطوى على آثار صحية سلبية، وهو أمر نعرفه منذ قرون، فقد تأكد أيضا أن قضاء الوقت في الهواء الطلق في بيئات نظيفة، له آثار إيجابية على الصحة العامة والصحة العقلية، والقدرات الإدراكية وضغط الدم للانسان.
ورغم أن عمليات الإغلاق التي واكبت فترة جائحة كورونا، أدت إلى عواقب سلبية غير مقصودة جراء البقاء في المنازل، فقد أظهرت دراسة أجريت عام 2022، أن خروج البعض للطبيعة خلال فترة الجائحة، ارتبط بتراجع معدلات الاكتئاب والتوتر، وزيادة مستويات السعادة والرضا عن الحياة بشكل عام. وخلصت تلك الدراسة إلى أن معدلات التعافي من الأمراض، والمرونة في مواجهة الأزمات الصحية المستقبلية "ربما تتحسن في وجود منشآت وتصميمات، ومنظومات حوكمة تعتمد على الطبيعة".
وخلصت أوريسكس إلى عدم وجود تعارض بين الاقتصاد وحماية البيئة، وأن هذه النوعية من استطلاعات الرأي سالفة الذكر، تفضي إلى مفاهيم غير صحيحة عن العلاقة بين البيئة والنمو الاقتصادي.