تشهد أسواق النفط العالمية استقراراً بشكل ملحوظ رغم التصعيد الأخير في التوترات بين إسرائيل وإيران، في تحدٍ للتوقعات التي رجّحت تقلبات حادة في الأسعار. فقد شنّت إسرائيل هجمات واسعة النطاق على منشآت إيرانية، شملت مواقع نووية، ما دفع طهران إلى التلويح بـ«رد قاسٍ». ومع ذلك، استمرت تدفقات النفط من الشرق الأوسط دون انقطاع.
وأظهر تقرير نشره موقع «بلومبرغ» أن المؤشرات حتى يوم الجمعة لم تسجّل أي تأثير للتصعيد على الإنتاج أو الصادرات في المنطقة، فقد واصلت الحقول النفطية عملها، واستمرت عمليات تحميل الناقلات، ما يشير إلى أن خطر تعطل فعلي في الإمدادات لا يزال مستبعداً في الوقت الراهن، بل إن أساسيات السوق تُظهر وجود فائض.
وتشير تقديرات عدد من المحللين إلى أن المخزونات العالمية تجاوزت المستويات الموسمية المعتادة خلال الأشهر الأخيرة، في دلالة واضحة على أن المعروض يفوق الطلب. ومع ذلك، رغم استقرار السوق، يرى الخبراء أن هذا الهدوء قد يُخفي مخاطر كامنة.
واعتبر المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، فاتح بيرول، بعد ساعات من الهجوم الإسرائيلي واسع النطاق، أن «الأسواق مزودة جيداً اليوم»، في إشارة إلى أن التوترات الجيوسياسية لم تنعكس بعد على الإمدادات المادية، رغم مرور عامين من التصعيد والعنف المباشر في المنطقة.
في رد الفعل الأولي للأسواق، سجّل خام برنت ارتفاعاً بنحو 10% في بداية تداولات الجمعة، مقترباً من 80 دولاراً للبرميل، لكنه عاد وتراجع إلى نحو 75 دولاراً، مع إقدام المتعاملين على البيع عند مستويات مرتفعة.
في موازاة ذلك، شهدت سوق الخيارات إقبالاً لافتاً على شراء عقود تُحقق أرباحاً إذا قفزت الأسعار إلى ما فوق 100 دولار للبرميل، في مؤشر على تنامي القلق.
وقد يمنح موسم الصيف في نصف الكرة الشمالي دعماً مؤقتاً للطلب، إلا أن التوقعات للمدى المتوسط لا تزال تُشير إلى تباطؤ، في ظل اتجاه المملكة العربية السعودية لدفع تحالف «أوبك+» نحو زيادة الإنتاج بوتيرة أسرع من المتوقع، إلى جانب ضعف نمو الطلب العالمي.
يرى مراقبون أن استقرار السوق في الآونة الأخيرة يعكس حقيقة مزعجة، إذ رغم التصريحات النارية والتحركات العسكرية، لم يستهدف أي طرف حتى الآن البنية التحتية النفطية. فلا صادرات إيران، خصوصاً إلى الصين، التي تجاوزت حالياً 1.5 مليون برميل يومياً، تأثرت، ولا طالت الضربات الإسرائيلية منشآت النفط الإيرانية. لكن الكلمة الحاسمة هنا هي «حتى الآن»، وفق التقرير.
أحد العوامل غير المحسومة هو رد طهران المقبل. فهي لم تُهدد بعد بإغلاق مضيق هرمز، الذي تمر عبره 20% من إمدادات النفط العالمية، لكنها أيضاً لم تستبعد هذا الخيار. أما دول الخليج، فتبذل جهداً واضحاً لتفادي التصعيد والتهدئة.
كما تتمثل أكبر التهديدات المحتملة للأسواق النفطية في كيفية رد إيران استراتيجياً. فإذا قررت طهران أن السبيل الوحيد لردع إسرائيل هو تسريع برنامجها النووي، فقد تنسحب من معاهدة عدم الانتشار النووي الموقعة عام 1968، ما قد يؤدي إلى فرض عقوبات دولية جديدة. ومن شأن ذلك أن يُصعّب من تصدير النفط الإيراني إلى الصين، ويؤدي إلى تشديد المعروض العالمي.
وإذا شعرت القيادة الإيرانية بأنها تواجه معركة وجودية، فقد تلجأ إلى خطوات أكثر حدة، مثل تعطيل السوق النفطية لإحداث اضطراب اقتصادي عالمي. في هذه الحالة، تصبح احتمالات حدوث صدمة في المعروض حقيقية، وليست مجرد سيناريو نظري.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المعروف بانتقاده لارتفاع أسعار الطاقة، أعرب أخيراً عن انزعاجه من تجاوز سعر الخام 70 دولاراً. وقبيل الهجوم الإسرائيلي، وجّه سؤالاً علنياً إلى وزير الطاقة كريس رايت قال فيه: «هل كل شيء على ما يرام؟ لا يوجد خطب ما؟ الأسعار ستستمر بالانخفاض، أليس كذلك؟ لأن التضخم تحت السيطرة». لكن مع التصعيد الأخير، لم يعد الأمر كذلك.
في الوقت نفسه، أتاحت الأسعار المرتفعة نسبياً فرصة غير متوقعة لمنتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة لتثبيت أسعار العقود الآجلة عند مستويات مناسبة، ما قد يدفعهم إلى مواصلة الحفر بمعدلات أعلى، ويعزز حالة الفائض.
ما يشهده السوق اليوم يُذكّر بما حدث في تموز 1990، حين بدت السوق مشبعة بالنفط، قبل أن يغزو العراق الكويت، ما أدى إلى صدمة نفطية عالمية. وكما يوضح أحد المحللين: «الضربة القاضية غالباً ما تكون الأخيرة التي لا يتوقعها أحد».
في الوقت الحالي، يبقى المعروض النفطي وفيراً، والمؤشرات الأساسية تميل نحو مزيد من التراجع في الأسعار. لكن المراهنة على غياب أي ارتفاع كبير في الأسعار تتطلب جرأة كبيرة. وكما قال أحد المراقبين: «من يريد البيع في هذا السوق يحتاج إلى أعصاب من فولاذ».
وبينما تتعمق الأزمة الجيوسياسية، يبدو سوق النفط معلقاً بين واقع المعروض المريح وخطر الانفجار السياسي، مزوداً جيداً، لكنه على بُعد خطوة واحدة من الاضطراب.