إذا كانت "وول ستريت" تمثّل جوائز الأوسكار، فإن شركة «مايكروسوفت» قد حصدت لتوّها جائزة «أفضل فيلم»، فقد شكلت نتائج أرباحها الأخيرة عرضاً متقناً أبهرت به المحللين والمستثمرين على حد سواء.
لكن خلف بريق الأرقام الرئيسة تكمن رؤية إستراتيجية واضحة تحوّل «مايكروسوفت» إلى عملاق لا غنى عنه في ميادين الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية. فلنحلل هذه النتائج، ونستكشف ما تعنيه بدقة للمستثمرين.
لم تكتفِ مايكروسوفت بتجاوز التوقعات، بل تفوّقت عليها بشكل ساحق. إذ ارتفعت الإيرادات بنسبة 13% لتسجّل رقماً قياسياً بلغ 70.1 مليار دولار أميركي، متجاوزة توقعات "وول ستريت" بنحو ملياري دولار. والأكثر إثارة للإعجاب أن ربحية السهم الواحد قفزت إلى 3.46 دولار، أي أعلى بنسبة 8% من متوسط التقديرات.
واستقبل المستثمرون هذه الأنباء بترحاب كبير؛ إذ قفز سهم «مايكروسوفت» بنسبة تقارب 6% بعد ساعات التداول، في إشارة واضحة إلى تزايد الثقة بمستقبل الشركة.
أما السر الحقيقي وراء هذه الأرقام المتألقة؟ فيكمن في الحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعي. فقد حقق «أزور»، الجوهرة في تاج مايكروسوفت، نمواً مذهلاً بنسبة 35%، متجاوزاً الجاذبية بتسارع في وتيرة نموه. والأهم من ذلك أن الذكاء الاصطناعي ساهم بنصف هذا النمو، ما يبرز السرعة التي أصبح بها الذكاء الاصطناعي المحرك الأكبر للنمو لدى مايكروسوفت.
وأوضح ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي صاحب الرؤية الثاقبة للشركة، ذلك بقوله: «السحابة والذكاء الاصطناعي هما المدخلان الأساسيان لكل شركة تسعى لزيادة الإنتاج، وخفض التكاليف، وتسريع النمو». بعبارة أخرى، الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، لم يعودا مجرّد كلمات طنانة، بل يمثلان جوهر الإستراتيجية طويلة الأمد لمايكروسوفت.
لكن وسط أجواء النشوة، ثمّة تطور دقيق ومهم يحدث. فبعد 10 أرباع متتالية من الاستثمارات المكثفة في مراكز البيانات – وهي ما وصفه أحد المحللين بأنه «أضخم توسع في البنية التحتية شهدته البشرية على الإطلاق» – خفّفت «مايكروسوفت» وتيرة هذا التوسع قليلاً. إذ انخفض الإنفاق الرأسمالي إلى 21.4 مليار دولار، ما يشير إلى أن الشركة تدخل مرحلة جديدة قد تكون أكثر ربحية.
تخيّل الأمر كعدّاءٍ ماهر يخفف سرعته بعد انطلاقة نارية – هو لا يزال طموحاً، لكن أكثر حنكة، يحافظ على طاقته لما هو قادم. وهذا يوحي بأن «مايكروسوفت» بدأت ترى عوائد ملموسة من إنفاقها الضخم على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وهو مؤشر إيجابي على الربحية، والتدفقات النقدية المستقبلية.
لا تُعدّ «مايكروسوفت» بمنأى عن رياح التغيرات الاقتصادية. فارتفاع الرسوم الجمركية، وحالة عدم اليقين العالمية، تمثلان مخاطر حقيقية – لا سيما أن هذه الضغوط قد تدفع بعض الشركات لتقليص استثماراتها في التحديثات التقنية المكلفة.
ومع ذلك، فإن تنوّع محفظة مايكروسوفت – من «إكس بوكس» إلى «لينكدإن» – يواصل إظهار قدر كبير من الصمود، مسجّلاً نمواً حتى في أوقات التباطؤ الاقتصادي.
وينبغي ترقّب ما ستصدره الإدارة من توجيهات مستقبلية. فإذا ألمحت مايكروسوفت إلى قدرتها على مواجهة آثار الرسوم الجمركية بكفاءة، فإن ذلك سيوفر الطمأنينة للمستثمرين.
بينما ننظر إلى ما بعد هذه الإنجازات، لا يزال مسار «مايكروسوفت» مثيراً للاهتمام. فمع انتهاء المرحلة الشاقة من بناء البنية التحتية، تنتقل الشركة إلى مرحلة أكثر ربحية واستقراراً من الذكاء الاصطناعي: مرحلة «الاستدلال» (inference) بدلاً من مرحلة التدريب الأولي المكثّف. كما أن انخفاض الإنفاق على الشراكات – لاسيما مع «أوبن إيه آي» – يوحي بإدارة أكثر إحكاماً وربحية في المستقبل.
وقد يشكّل هذا التحوّل الإستراتيجي تمهيداً لتسارع قوي في الأرباح قد يبدأ في وقت مبكر من العام المقبل – وهو تماماً ما يتوق إليه المستثمرون.
إليك ما يجب أن يضعه المستثمرون نصب أعينهم خلال الفترة المقبلة:
انضباط الإنفاق: راقب من كثب الإنفاق الرأسمالي لمايكروسوفت. فالثبات أو التراجع في هذا الإنفاق يعني ربحية أعلى وإمكانية نمو في التوزيعات النقدية.
نجاح تحقيق الإيرادات من الذكاء الاصطناعي: تابع تطوير التحديثات المدفوعة في تطبيقات الإنتاجية؛ إذ إن استمرار تبنّيها من قبل المستخدمين سيدرّ عائدات كبيرة.
إدارة المخاطر الاقتصادية: تابع المؤشرات الاقتصادية وأخبار الرسوم الجمركية، فالتحديات الاقتصادية الكلية تظل عامل خطر رئيساً.
مؤشرات الربحية: راقب تصريحات مايكروسوفت التي قد تشير إلى تركيز متزايد على هوامش الربح، وهو أمر مبشر لنمو الأرباح المستقبلية.
لم تكن نتائج «مايكروسوفت» قوية فحسب، بل مثّلت ضربة إستراتيجية محكمة، ترسّخ بها موقعها الريادي في مجال الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، في اللحظة المناسبة تماماً. والرسالة واضحة للمستثمرين: «مايكروسوفت» لم تعد مجرّد لاعب في أكبر موجة تقنية، بل هي من يقود هذه الموجة.
ومع تأمل المستثمرين في هذه النتائج الأخيرة، تبدو الاستعارة التالية في محلها: «مايكروسوفت» لا تبحر في بحار التقنية فحسب، بل تعيد تشكيل المحيطات ذاتها. ولمن استثمر فيها، أو يفكر في الاستثمار، فهذا هو بالضبط نوع السرد الذي يُطمئن ويروّج للثقة.