منذ دخلت الكاميرا عالم الإعلام، أصبحت الصورة أبلغ من ألف كلمة، وتربّعت على عرش المصادر الموثوقة في نقل الأخبار، خاصة حين تلتقط لحظات مؤثرة من قلب الحدث.
لكن في عصر الذكاء الاصطناعي المتسارع، بات التمييز بين الواقع والتزييف أصعب من أي وقت مضى، وبات التشكيك بمصداقية ما نراه في الصور مشروعاً تماماً.
تتطور أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل «ميد جورني» (Midjourney)، و«دال-إي» (DALL-E)، بسرعة رهيبة، فلم تعد تنتج صوراً بسيطة، بل تخلق مشاهد واقعية للغاية، يصعب على العين البشرية وحتى بعض الخوارزميات اكتشاف أنها مزيفة.
فمن ساحات القتال المتخيلة إلى شخصيات سياسية في مواقف لم تحدث قطُّ، أصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على تزييف الواقع بصرياً بشكل مخيف.
تعتمد تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي على نماذج معقدة تستطيع تحليل كميات هائلة من البيانات البصرية لإنشاء صور جديدة تماماً، هذه العملية يمكن استخدامها لـ:
يتخيل صوراً لأحداث لم تقع قطُّ، مثل قصف مواقع تاريخية أو تدمير بنى تحتية، بهدف تضليل الرأي العام.
تغيير تفاصيل دقيقة في صور موجودة لتغيير سياقها أو إضفاء طابع درامي غير حقيقي، يمكن إضافة شخصيات، أو تعديل وجوه، أو تغيير الخلفيات بسهولة.
ليست الصور الثابتة فحسب، بل مقاطع الفيديو والصوت أيضاً، يمكن تزييفهما لإنشاء محتوى يبدو حقيقياً لشخصيات مشهورة ومؤثرة، يقولون أو يفعلون أشياء لم يفعلوها.
لا تعد الصور ومقاطع الفيديو المزيفة بالذكاء الاصطناعي، مجرد مشكلة أخلاقية أو صحفية فحسب، بل قوة اقتصادية سلبية قادرة على زعزعة الأسواق، وتقويض الثقة، وزيادة التكاليف، وتوجيه الاستثمارات بعيداً، ما يهدد الاستقرار الاقتصادي العام.
تزايدت الأرقام المتعلقة بالخسائر والتكلفة الاقتصادية جراء المعلومات المضللة والمحتوى المزيف بالذكاء الاصطناعي بشكل كبير، خاصة مع التطور السريع لتقنيات الـ«ديب فيك»، حيث توضح بعض الإحصاءات الحديثة والتقديرات الأثر الاقتصادي لهذا الموضوع:
تتوقع شركة «ديلويت» (Deloitte)، العالمية للاستشارات الإدارية والمالية، أن تصل خسائر الاحتيال الإلكتروني بسبب الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى 40 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها بحلول عام 2027، ارتفاعاً من 12.3 مليار دولار في 2023، بمعدل نمو سنوي مركب 32%.
كما أشارت في تقرير آخر إلى أن حوادث الاحتيال باستخدام الـ«ديب فيك»، في قطاع التكنولوجيا المالية (Fintech) زادت 700% في عام 2023.
يمكن لصورة مزيفة واحدة أو تقرير كاذب يستند إلى محتوى مولّد بالذكاء الاصطناعي أن يدمر سمعة شركة أو علامة تجارية في غضون ساعات، ما يؤدي إلى خسائر مالية فادحة، وعلى سبيل المثال: في عام 2023، تسببت تغريدة مزيفة تظهر انفجاراً وهمياً بالقرب من وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» في اضطراب سوق الأسهم الأميركية.
وفي نوفمبر 2022، كلفت تغريدة مزيفة لشركة «إيلي ليلي» (Eli Lilly) الأميركية الطبية، خسائر بنحو 22 مليار دولار في سوق الأسهم.
كما تسبب تقرير مزيف عام 2013 عن انفجارات في البيت الأبيض وجرح الرئيس الأميركي وقتها باراك أوباما، في خسارة مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» نحو 130 مليار دولار من قيمته السوقية في دقائق.
يمكن لصور مزيفة تظهر أحداثاً كبرى «مثل هجوم على منشأة نفطية، أو تصريح مزيف لقائد سياسي» أن يتسبب بتقلبات حادة وغير مبررة في الأسواق المالية، وأسعار الأسهم، والسندات، والعملات.
وأسعار السلع «خاصة النفط والذهب» يمكن أن تتأثر بشكل كبير وسريع بناءً على معلومات مضللة، ما يؤدي إلى خسائر بمليارات الدولارات للمستثمرين.
قد يستغل بعض المضاربين المحتوى المزيف لشن حملات تضليلية تهدف إلى التلاعب بالأسواق وتحقيق أرباح غير مشروعة على حساب صغار المستثمرين أو حتى المؤسسات الكبيرة.
صور مزيفة لتهديدات على طرق الشحن الرئيسة «مثل مضيق هرمز أو قناة السويس» أوهجمات وهمية على ناقلات البضائع، يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع تكاليف التأمين البحري، وتأخير الشحنات، وتغيير مسارات السفن، ما يزيد تكاليف التجارة العالمية وينعكس سلباً على المستهلكين.
إذا أدت الصور المزيفة إلى اعتقاد خاطئ بوجود اضطرابات في مناطق إنتاج رئيسة أو نقاط عبور حرجة، فقد يؤدي ذلك إلى نقص في الإمدادات أو ارتفاع غير مبرر في أسعار المواد الخام، ما يؤثر على الصناعات التي تعتمد على هذه السلاسل.
البيئة الغنية بالمعلومات المضللة تقلل من اليقين، وتزيد المخاطر المتصورة للاستثمار في مناطق معينة، هذا يمكن أن يدفع الشركات والمستثمرين إلى سحب رؤوس أموالهم أو تجنب الاستثمار في الدول التي تُعد بيئتها المعلوماتية غير موثوقة.
قد تضطر الحكومات إلى تخصيص ميزانيات أكبر لمكافحة المعلومات المضللة والأمن السيبراني، ما يحول الموارد بعيداً عن مشاريع التنمية الاقتصادية الحيوية أو الخدمات الأساسية.
قطاعات مثل السياحة يمكن أن تتأثر بشكل مباشر إذا انتشرت صور مزيفة تصور مناطق آمنة على أنها خطرة أو تشهد اضطرابات.
يُقدر محللون لوكالة رويترز، أن السوق العالمي للكشف عن المحتوى المزيف، الذي تطبقه شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، سينمو 42% سنوياً، ليصل إلى 15.7 مليار دولار بحلول عام 2026، ارتفاعاً من 5.5 مليار دولار في 2023.
تحتاج المؤسسات المالية وشركات التكنولوجيا إلى زيادة استثماراتها في فرق مكافحة الاحتيال الأكثر مرونة وتطوير تقنيات جديدة لمواجهة هذا التهديد المتزايد.
تنفق الشركات المستهدفة بحملات التضليل مبالغ طائلة على إدارة السمعة، حيث كانت التقديرات تشير سابقاً إلى حوالي 9.54 مليار دولار سنوياً لهذا الغرض.
يمكن أن يواجه الأفراد والشركات دعاوى قضائية تتعلق بالتشهير أو التضليل بسبب المحتوى المزيف، ما يرتب عليهم تكاليف قانونية ضخمة، كما تسعى الحكومات لوضع قوانين ولوائح للتعامل مع هذا المحتوى، ما قد يفرض تكاليف امتثال على المنصات الرقمية والشركات التكنولوجية، ويؤثر على الابتكار إذا كانت هذه اللوائح صارمة جداً أو غير واضحة.
عندما يصبح من الصعب التمييز بين الحقيقة والزيف، تتآكل ثقة الجمهور في الأخبار ووسائل الإعلام، وحتى في المؤسسات الرسمية، هذا يمكن أن يؤدي إلى تراجع الإنفاق الاستهلاكي أو عزوف المستثمرين عن أسواق معينة يشعرون فيها بعدم التأكدية بشأن المعلومات.
بينما تتطور تقنيات التزييف، تتطور أيضاً أدوات الكشف عنها:
محللو الطب الشرعي الرقمي يبحثون عن تناقضات في بيانات الصورة الوصفية (metadata)، أو أنماط ضغط الصور، أو عيوب صغيرة جداً في الإضاءة والظلال لا تظهر للعين المجردة.
يتم تطوير نماذج ذكاء اصطناعي خصيصاً للكشف عن الصور المولّدة بوساطة هذه البرامج، حيث تبحث هذه النماذج عن أنماط معينة أو "بصمات" تتركها أدوات التوليد.
تبدأ المواقع والمنصات المتخصصة ببيع المحتوى، بوضع علامات مائية غير مرئية على الصور الحقيقية للمساعدة في التحقق من صحتها.
تواصل منظمات متخصصة في التحقق من الحقائق لعب دور حيوي في التحقق من الصور ومقاطع الفيديو المنتشرة على الإنترنت.
لا يقتصر الأثر الاقتصادي للمحتوى المزيف بالذكاء الاصطناعي على الخسائر المالية المباشرة فقط، بل يمتد ليشمل تكاليف الوقاية، وإدارة السمعة، وفقدان الثقة، وتباطؤ النمو في بعض القطاعات، فالأرقام الحديثة للخسائر مخيفة، وتظهر أن هذه ليست مجرد مشكلة عابرة، بل تحدٍ اقتصادي حقيقي ومتنامٍ يتطلب استثمارات ضخمة وجهوداً منسقة لمكافحته.