في بلد مزقته الحرب والصراعات منذ أكثر من عقد، تبدو مهمة التعافي الاقتصادي في سوريا شبه مستحيلة في ظل فجوة تمويلية عميقة تهدد بإبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه لعقود مقبلة. فبينما تبلغ احتياجات إعادة الإعمار الأساسية نحو 150 مليار دولار بحسب تقديرات البنك الدولي، لم تتجاوز التعهدات الدولية الأخيرة حاجز 6.4 مليار دولار – أي ما يعادل بالكاد 4% من المطلوب.
هذا الفارق الفادح لا يعكس فقط ضعف الالتزام الدولي تجاه الأزمة السورية، بل يسلط الضوء على عوائق هيكلية أعمق، تبدأ من منظومة العقوبات المشددة المفروضة على دمشق، ولا تنتهي بصعوبة الوصول إلى قنوات التمويل العالمية. فبحسب بيانات رسمية، تراجعت الاحتياطيات الأجنبية للمصرف المركزي السوري بنسبة 90%، فيما توقفت أكثر من 85% من المؤسسات المالية العالمية عن التعامل مع سوريا، ما يجعل البلاد في عزلة مالية خانقة.
تتجلى المعضلة الأساسية اليوم في التساؤل: كيف يمكن لسوريا تأمين ما لا يقل عن 11 مليار دولار سنوياً لسد الحاجات الأساسية فقط، في ظل هذا الانقطاع شبه التام عن النظام المالي الدولي؟ الإجابة لا تزال غائبة، كما يقول الخبير المالي الدولي جمال المصري، الذي أكد في تصريح خاص لـ«إرم بزنس» أن العقوبات الاقتصادية المفروضة منذ عام 2011 هي العائق الأبرز أمام أي بوادر للتعافي، مضيفاً أن آثارها كانت «مدمرة على قطاعات حيوية مثل النفط والغاز والمصارف والاستثمار، ما عزل الاقتصاد السوري عن الأسواق العالمية، وعرقل أي عملية إعادة إعمار حقيقية».
وتابع المصري أن هذه العقوبات أدت إلى «تدهور قيمة العملة المحلية، واستنزاف الاحتياطيات الأجنبية»، بالإضافة إلى «قيود صارمة على قطاع الطاقة، ما أثر على توفر الوقود والكهرباء»، مشيراً إلى أن العقوبات المصرفية بدورها «كانت عائقاً أمام تحسين مستويات المعيشة للمواطنين».
وحول تكلفة إعادة الإعمار، أشار إلى أن التقديرات تتراوح بين 120 و270 مليار دولار، بينما تبقى تقديرات البنك الدولي (150 مليار دولار لإعادة البناء المادي فقط) الأكثر تداولًا. وشدد على أن «الحصول على هذا التمويل مشروط أولًا برفع العقوبات»، مشيراً إلى أن القروض الدولية «تتطلب ضمانات إقليمية يصعب توفرها حالياً»، بينما لا تكفي المساعدات وحدها، ما يجعل «الاستثمار الخاص هو الركيزة الأساسية للتعافي، عبر استعادة رؤوس الأموال المهاجرة وجذب مستثمرين جدد».
ولتحفيز هذا الاستثمار، دعا المصري إلى «إصلاح النظام المصرفي وتبني سياسات نقدية صارمة، إلى جانب خصخصة بعض القطاعات مثل الاتصالات والنقل مع الحفاظ على الرقابة الحكومية»، مشدداً على أهمية «الشراكة بين القطاعين العام والخاص» كأداة لتفعيل النمو الاقتصادي.
لكن بعيداً عن التحليلات والأرقام، يعكس صوت المواطن السوري سامر حبيب واقعاً آخر أكثر قسوة – واقعاً لا تراه المؤتمرات، ولا تتلمّسه خطابات الدعم الدولي. ففي حديثه إلى «إرم بزنس»، قال:
«الجميع يتحدث عن الدعم الدولي، لكنني حتى اليوم لم أرَ أي شكل من أشكال هذا الدعم، ولو دولاراً واحداً! كل ما وصلنا كان مجرد محاضرات عن الألغام، وكأنهم يطلبون منا أن نكون نحن من يحذر من الموت، بدلاً من أن يعملوا على إزالة الخطر».
«في قريتنا، تمتلك كل عائلة مشروعاً صغيراً بدأته من مدخراتها القليلة؛ دكان، ورشة خياطة، محل لبيع مواد البناء... لكنها جميعاً باتت على وشك الإغلاق. الأسعار أصبحت جنونية، والناس لم تعد قادرة على شراء أبسط الحاجات».
«أنا شخصياً لم أطلب المساعدة يوماً، لكنني رأيت الكثير من النازحين يعيشون في الخيام، يسألون الناس ويطلبون العون، ولا يجدون حتى رغيف خبز. من يريد مساعدة، عليه أن يمتلك واسطة، أو ينتمي إلى جهة معينة. وإلا؟ فمصيره الانتظار وسماع الوعود فقط».
تعليقات سامر ليست حالة فردية، بل تعكس مأساة يومية تعيشها آلاف العائلات السورية، حيث تفقد المشاريع الصغيرة – التي تشكل الشريان الأخير للحياة الاقتصادية – قدرتها على الاستمرار في ظل تضخم متسارع وانهيار للقدرة الشرائية. شهادته تشير بوضوح إلى التناقض بين الدعم المعلن والمساعدات الفعلية على الأرض، كما تسلط الضوء على ظواهر الفساد والتمييز في توزيع المعونة، ما يُفاقم من معاناة الفئات الأكثر ضعفاً.
في عامي 2024 وبداية 2025، استمر تدفق بعض المساعدات الدولية إلى سوريا، لكن معظمها كان إنسانياً بحتاً، دون أن يشمل أي خطوات جدية على طريق إعادة الإعمار الشامل. برنامج الأغذية العالمي قدّم مساعدات غذائية لنحو 5.5 مليون شخص شهرياً، لكن تم تقليص الحصص بنسبة 50% في بعض المناطق بسبب نقص التمويل. كما وزعت مفوضية اللاجئين مساعدات غير غذائية (مثل البطانيات ومستلزمات النظافة) لأكثر من 2 مليون نازح، إضافةً إلى دعم محدود لتأهيل ملاجئ ومدارس في مناطق مثل حلب ودرعا.
من جهتها، زودت منظمة الصحة العالمية المستشفيات بأدوية ولوازم تكفي 7 ملايين شخص، كما دعمت حملات تطعيم ضد أمراض مثل الكوليرا، التي تفشّت في 2023.
أما على صعيد التمويل، فقد كان مؤتمر بروكسل للمانحين، وبلغ إجمالي التعهدات المقدمة من المشاركين في المؤتمر 5.8 مليارات يورو (6.3 مليارات دولار)، منها 4.2 مليارات يورو (4.56 مليارات دولار) كمنح، و1.6 مليار يورو (1.74 مليار دولار) كقروض ميسرة، وتحمّل الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه 80% من إجمالي المنح المقدمة، وهذا يجعله أكبر جهة مانحة لدعم سوريا.
وفي سياق الدعم الثنائي، برزت مساهمة الصندوق الكويتي للتنمية في مشاريع البنية التحتية، حيث أشارت تقارير غير رسمية إلى تمويل بقيمة 100 مليون دولار لإعادة تأهيل شبكات الكهرباء والمياه في 2023. كما قامت الإمارات بتمويل مشاريع كثيرة في قطاع الطاقة، مثل محطة كهرباء حلب.
وفي تحرك رمزي لكن لافت، تعهدت كل من المملكة العربية السعودية ودولة قطر بسداد ديون مستحقة على سوريا لصالح البنك الدولي، بلغت قيمتها نحو 15 مليون دولار، في خطوة وُصفت بأنها محاولة لفك جزئي للعزلة المالية، رغم محدودية تأثيرها مقارنة بحجم الاحتياجات الكلية.
لكن ورغم هذه المبادرات، تبقى العقوبات – خصوصاً قانون قيصر – العائق الأكبر أمام وصول المساعدات إلى مناطق سيطرة الحكومة، ويزيد الانقسام السياسي الداخلي من تعقيد التوزيع العادل. كما تراجعت أولويات سوريا على أجندة المانحين الدوليين في ظل أزمات دولية طارئة كأوكرانيا وغزة، ما أدى إلى تراجع التمويل المتاح عامًا بعد عام.
في ظل هذا الواقع المتشابك، تظل فجوة التمويل الدولي ليست مجرد مسألة اقتصادية، بل تعبيرًا عن فشل النظام الدولي في التعامل مع أزمة ممتدة لعقد ونصف، حيث لا إعمار بلا تمويل، ولا تمويل بلا قرار سياسي بتجاوز العقوبات والجمود.