بينما تدخل سوريا مرحلة جديدة بعد سقوط النظام السابق في ديسمبر 2024، تبرز تحديات اقتصادية هائلة تهدد فرص الاستقرار والتعافي، في ظل مؤشرات انكماش عميقة رسمها صندوق النقد والبنك الدوليين، تعكس أثر أكثر من عقد من الصراع والانهيار المؤسساتي.
في تقريره الأخير الصادر في مايو الجاري ضمن «آفاق الاقتصاد الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى»، كشف صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد السوري انكمش بنحو 60% منذ عام 2011، محذراً من أن هشاشة المؤسسات الاقتصادية واستمرار الاختلالات الكلية يضعان البلاد في مسار بالغ الصعوبة، رغم بعض الانفراجات السياسية الأخيرة.
ويتقاطع تقرير البنك الدولي الصادر في أبريل الماضي مع تقييم الصندوق، متوقعاً انكماش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 1% خلال عام 2025، بعد تراجع بنسبة 1.5% في 2024. وأرجع البنك هذا الانكماش إلى تواصل الاضطرابات الأمنية، واحتمالات انقطاع إمدادات النفط لفترات طويلة، فضلًا عن شح السيولة ونقص التمويل المحلي.
بحسب البنك الدولي، فإن التدهور الاقتصادي المستمر ترافق مع تزايد معدل الفقر المدقع ليصل إلى 74.8% من السكان في 2025، مقارنة بـ72.8% في 2024 و67% في 2022، وفقاً لمعيار خط الفقر الدولي عند 3.65 دولار للفرد يومياً. وتبدو هذه الأرقام مرشحة للارتفاع في حال لم تصل مساعدات خارجية إضافية.
في هذا السياق، يشير الصندوق إلى أن التحديات لا تقتصر على الأرقام المجردة، بل تشمل منظومة الدعم والإنتاج، إذ تعاني البلاد من تآكل شبه كامل للبنية الإنتاجية، فيما يواجه القطاع العام تراجعاً حاداً في قدرته على تأمين الخدمات الأساسية.
ومع ذلك، توقع البنك الدولي تراجع معدل التضخم إلى نحو 19.7% خلال 2025، مقارنة بـ58.1% في 2024 و127.8% في 2023، وهو ما يُنظر إليه كمؤشر على استقرار نسبي بالأسعار، مدفوع بتراجع الطلب المحلي وتراجع القدرة الشرائية.
على الجانب الديمغرافي، وثّقت مفوضية اللاجئين (UNHCR) عودة نحو 300 ألف لاجئ إلى سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد، يمثلون نحو 4.9% من إجمالي 6.3 مليون لاجئ سوري في الخارج، إلى جانب عودة نحو 885 ألف نازح داخلي إلى مناطقهم الأصلية منذ نوفمبر 2024. ورغم أن هذه العودة تُشكّل ضغطاً فورياً على الموارد والمساعدات الإنسانية، يرى البنك الدولي أنها قد تُعيد تحريك بعض الأنشطة الاقتصادية على المدى المتوسط.
ويعلّق الخبير الاقتصادي السوري محمود الطرن على هذه التطورات، قائلاً في حديث لـ«إرم بزنس» إن «العودة الجزئية للاجئين يمكن أن تمثل بداية لدورة اقتصادية جديدة، إذا جرى ربطها بحوافز إنتاجية وتمويلات صغيرة. الاقتصاد السوري، رغم انهياره، ما يزال يعتمد على قاعدة مشاريع صغيرة ومتوسطة، وإذا ما فُعّلت أدوات التمويل الأصغر (microfinance)، فإن دورة الإنتاج قد تبدأ بالتعافي بوتيرة أسرع مما يُتوقع».
ويضيف الطرن أن «غياب الإحصاءات الرسمية الموثوقة يعقّد تقدير حجم الأزمة بدقة، لكن أرقام البنك الدولي قد تكون أقل تشاؤماً من الواقع الحقيقي، خصوصاً في المناطق الأشد تضرراً». ويرى أن «الانتقال من اقتصاد موجَّه أمنياً إلى اقتصاد السوق الحر هو الفرصة الحقيقية الوحيدة للخروج من الانهيار، شريطة أن يترافق مع سياسات شفافة وتدفق استثمارات خارجية».
يشير تقرير البنك الدولي إلى أن تخفيف العقوبات على بعض القطاعات (الطاقة، المالية، النقل) لم يُترجم بعد إلى تحسن ملموس في الواقع الاقتصادي، إذ ما تزال الأصول السورية مجمّدة، والوصول إلى النظام المصرفي العالمي محدوداً. ويُرجح أن استمرار هذا الوضع يُقيّد قدرة سوريا على استيراد المواد الأساسية، ويمدد أمد الاعتماد على المساعدات الإنسانية.
ويحذر البنك من أن تعثّر واردات الطاقة، لا سيما من إيران، قد يعيد الضغط على أسعار الوقود، وبهذا على التضخم، ما يهدد الاستقرار المالي الهش. في المقابل، يرى التقرير أن إعادة فتح طرق التجارة مع تركيا والدول المجاورة قد تُنعش التجارة البينية، وتُساعد في تحريك عجلة الاقتصاد، ولو تدريجياً.
خلفت الحرب منذ 2011 أكثر من 600 ألف قتيل من المدنيين، بحسب إحصاءات المرصد السوري لحقوق الإنسان، فيما يحتاج نحو 16.7 مليون شخص، أي 70% من السكان تقريباً إلى مساعدات إنسانية. وتصف الأمم المتحدة أزمة اللاجئين السوريين بأنها من بين الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، مع وجود 5.5 مليون لاجئ في دول الجوار، و1.2 مليون في الاتحاد الأوروبي.
كما أدت الحرب إلى تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 43%، وفقاً للبنك الدولي، الذي قدّر أن دخل الفرد في سوريا كان سيكون ضعف مستواه الحالي لولا اندلاع الصراع.