تُحدث الحروب والنزاعات الجيوسياسية تحولات جذرية في أسواق المال، ولا سيما في أسواق العملات. فمنذ بداية التسعينيات، أثبتت التجارب أن بعض العملات تميل إلى الارتفاع كملاذات آمنة، بينما تتعرض أخرى لضغوط حادة بسبب تقلبات الأسواق وفقدان الثقة.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، ظل الدولار الأميركي العملة الأكثر استفادة في أوقات الحروب. فمع كل تصاعد للتوترات العسكرية، يتجه المستثمرون نحو الدولار باعتباره ملاذاً آمناً مدعومًا بحجم الاقتصاد الأميركي وقوة النظام المالي.
خلال حرب الخليج عام 1991، ارتفع مؤشر الدولار الأميركي بنحو 1%، مدعوماً بالطلب المتزايد عليه. وخلال حرب العراق عام 2003، سجل الدولار مكاسب قوية مقابل الين الياباني، إذ قفز من نحو 117 إلى 132 يناً، أي ما يعادل ارتفاعاً بنسبة تتراوح بين 13% و15%. كما شهد الدولار موجة ارتفاع ملحوظة خلال الحرب الروسية في أوكرانيا عام 2022، مع اندفاع المستثمرين إلى الأصول الدولارية الآمنة.
الفرنك السويسري يُعد من العملات التي تستفيد تقليدياً في أوقات الحروب، بفضل حياد سويسرا واستقرار اقتصادها. خلال حرب كوسوفو عام 1999، زاد الطلب على الفرنك رغم عدم توفر بيانات دقيقة عن نسبة الارتفاع. وفي أزمتي أوكرانيا عامي 2014 و2022، ارتفع الفرنك مقابل العملات الرئيسة بنحو 5%، مدعوماً بسمعته كملاذ آمن في فترات الاضطرابات.
رغم أن اليابان لم تكن طرفاً مباشراً في النزاعات الكبرى منذ التسعينيات، إلا أن الين الياباني غالباً ما يرتفع في أوقات الحروب، إذ يُنظر إليه كعملة ملاذ آمن مدعومة بفائض اليابان التجاري.
خلال حرب العراق عام 2003، ارتفع الين بشكل لافت مقابل الدولار من نحو 135 إلى 119 يناً، أي ما يعادل مكاسب بلغت حوالي 12%. كما شهد الين ارتفاعاً طفيفاً خلال التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط عام 2020.
العملات الأوروبية، وعلى رأسها اليورو، عادة ما تتعرض لضغوط أثناء الحروب القريبة من القارة. خلال حرب كوسوفو وأزمة أوكرانيا، شهد اليورو تراجعات تراوحت بين 3% و6% مقابل الدولار، متأثراً بالمخاوف الجيوسياسية على الحدود الأوروبية. ورغم أن العملة الأوروبية تعافت في فترات لاحقة من الاستقرار، إلا أن الحروب القريبة تظل عامل ضغط مستمر على أدائها.
عملات الدول المنخرطة مباشرة في النزاعات غالباً ما تسجل انهيارات حادة. على سبيل المثال، تعرض الدينار العراقي لانهيار شبه كامل خلال غزو العراق عام 2003، حيث انهار سعر صرفه من نحو 0.3 إلى أكثر من 1,150 دينار للدولار، وهو ما يعادل انخفاضاً تجاوز 99.97%.
أما الروبل الروسي، فقد سجل تراجعات كبيرة خلال الأزمتين الأوكرانيتين عامي 2014 و2022، حيث فقد ما بين 30% و50% من قيمته قبل أن تتدخل الحكومة الروسية لدعمه.
منذ بداية التسعينيات وحتى اليوم، يبقى الدولار الأميركي والفرنك السويسري والين الياباني العملات الأكثر استفادة خلال أوقات الحروب، مع تسجيل ارتفاعات قوية تتراوح بين 5% و15% بحسب النزاع. في المقابل، تتراجع عملات الدول المتأثرة أو القريبة من النزاعات، مثل اليورو، بينما تنهار عملات الدول المنخرطة مباشرة في الحروب مثل الدينار العراقي والروبل الروسي.
وفي ظل استمرار التوترات العالمية، تظل تحركات العملات مرآة حساسة للاضطرابات الجيوسياسية والتوجهات الاستثمارية الدولية.