يواجه الباحثون عن عمل في مختلف الصناعات فترات انتظار طويلة وصعوبة متزايدة في العثور على وظائف، نتيجة الركود الكبير الذي يعصف بسوق التوظيف، لكن هذا الأمر يظهر جلياً في قطاع التكنولوجيا.
ووفقاً لتقرير نشره موقع «بزنس إنسايدر»، تعكس هذه الإحباطات اتجاهاً أوسع أصبح واضحاً في سوق الوظائف المكتبية. ففي حين لا يزال سوق العمل للوظائف منخفضة الأجور مستقراً إلى حد ما، شهدت الوظائف ذات الأجور المرتفعة، لا سيما في قطاع التكنولوجيا، تراجعاً كبيراً.
وتكشف البيانات الأخيرة من موقع «لينكدإن» عن تراجع حاد في التوظيف في القطاعات الرئيسة للوظائف المكتبية، حيث انخفض التوظيف في قسم الموارد البشرية بنسبة 28% منذ عام 2018، بينما تراجعت وظائف التسويق بنسبة 23%.
والأكثر قلقاً هو الانخفاض الحاد في التوظيف بقطاع التكنولوجيا، حيث تراجع التوظيف في مجالات تكنولوجيا المعلومات بنسبة 27%، ووظائف ضمان الجودة بنسبة 32%، وإدارة المنتجات بنسبة 23%. كما شهدت وظائف الهندسة، التي كانت تعدّ محصنة ضد الركود، تراجعاً بنسبة 26%.
ووفقاً للتقرير، تسلط هذه الانخفاضات الضوء على مشكلة أعمق في قطاع التكنولوجيا، تتمثل في التجميد الشامل للتوظيف. وبالنسبة للكثير من المحترفين الذين أمضوا سنوات، بل وعقوداً، في تطوير مهاراتهم في هذا المجال، كانت هذه التخفيضات مفاجئة ومحيرة.
حتى وادي السيليكون، الذي لطالما كان ملاذاً للمبرمجين ذوي المهارات المتقدمة، بدأ في تقليص اعتماده على المبرمجين، وهو اتجاه كان يصعب تصوره قبل بضع سنوات فقط.
على الجانب الآخر، تستمر بعض الصناعات في النمو. فقد شهد قطاع الرعاية الصحية، الذي يعاني من نقص حاد في الموظفين بسبب شيخوخة السكان والإرهاق بين العاملين في الخطوط الأمامية، زيادة بنسبة 10% في التوظيف.
وبالمثل، شهدت خدمات الحماية العسكرية، بما في ذلك الأدوار الأمنية، انخفاضاً طفيفاً بنسبة 6% فقط، بينما تراجعت خدمات المجتمع والرعاية الاجتماعية بنسبة 3% فقط.
وأشار التقرير إلى أنه يمكن ملاحظة الاتجاهات نفسها على منصات التوظيف مثل «إنديد» (Indeed). فمنذ الجائحة، ارتفعت الإعلانات الوظيفية للأطباء والمعالجين الفيزيائيين بأكثر من 80%، بينما انخفضت الإعلانات الخاصة بمطوري البرمجيات ومحللي البيانات وعلماء البيانات وعمليات تكنولوجيا المعلومات بنسبة 20% أو أكثر.
ويعكس هذا التحول في أنماط التوظيف التغيرات الأوسع في الطلب على العمل، حيث أصبحت الخدمات الأساسية تتفوق على قطاعات مثل التكنولوجيا والمالية.
ويشرح كوري كانتينغا، الاقتصادي رئيس قسم الاقتصاد في الأميركتين في «لينكدإن»، قائلاً: «لم نرَ تباطؤاً في التوظيف بشكل عام، لكن هناك قطاعات معينة شهدت تراجعاً حاداً». وتشمل هذه القطاعات التكنولوجيا والموارد البشرية والتسويق، التي عادة ما تتعرض لخفض الميزانيات في فترات الركود الاقتصادي.
استعرض التقرير عدة عوامل تساهم في تباطؤ التوظيف في قطاع التكنولوجيا، أبرزها التوظيف الزائد الذي حدث بعد موجة غير مسبوقة من استقالات الموظفين عقب الجائحة، والمعروفة بـ«الاستقالة العظمى». بعد هذه الظاهرة، قامت شركات التكنولوجيا بتكثيف التوظيف لتلبية الزيادة في الطلب على منتجاتها وخدماتها.
كما تظهر بيانات «لينكدإن» أن التوظيف في أدوار مثل إدارة المنتجات والموارد البشرية والهندسة قد شهد زيادات ملحوظة، حيث بلغت الزيادة في إدارة المنتجات 89%، وفي الموارد البشرية 79%، وفي الهندسة 43%.
ومع تباطؤ الاقتصاد، وجدت هذه الشركات نفسها تواجه فائضاً من الموظفين. ومن أجل إدارة ذلك، لجأت العديد منها إلى التسريح من العمل، في حين اختار البعض الآخر تجميد التوظيف، ما قلل تدريجياً من أعداد الموظفين من خلال الاستقالات الطوعية.
عامل رئيس آخر في تجميد التوظيف في قطاع التكنولوجيا هو التحول في سلوك الموظفين، فالعديد من الذين شاركوا في «الاستقالة العظمى» أصبحوا الآن يسعون إلى الاستقرار في ظل حالة عدم اليقين الاقتصادي. ونتيجة لذلك، شهد معدل دوران الموظفين الطوعي انخفاضاً كبيراً، حيث تراجع من حوالي 27% في عام 2022 إلى أقل من 20% في عام 2023، مما ساهم في تقليل الحاجة إلى تعيين موظفين جدد.
كما أثرت زيادة استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بشكل كبير على تقليص التوظيف في قطاع التكنولوجيا. فمع تقدم تقنياته، مثل «شات جي بي تي»، أصبحت الشركات قادرة على أداء المهام بكفاءة أعلى، مما قلل من الحاجة إلى موظفين جدد.
على سبيل المثال، يمكن للمبرمجين المدعومين بالذكاء الاصطناعي كتابة الشيفرة البرمجية بسرعة تزيد بنسبة 56% مقارنة بالمبرمجين البشريين العاملين بشكل مستقل. كما أفادت شركة «غوغل» بأن أكثر من 25% من الشيفرة البرمجية الجديدة التي تنتجها الآن يتم توليدها بواسطة الذكاء الاصطناعي.
تداعيات كبيرة
وبالنسبة للعديد من الباحثين عن عمل، أكد التقرير أن التداعيات تتعدى نقص الوظائف المتاحة لتشمل بطء عملية التوظيف بشكل كبير. ووفقاً للبيانات الواردة من منصة «غرين هاوس»، المتخصصة في إدارة التوظيف، فإن متوسط الوقت اللازم للتوظيف قد زاد من 52 يوماً في منتصف عام 2021 إلى 66 يوماً في أوائل عام 2024.
ومع تزايد عدد المرشحين المؤهلين، تستغرق الشركات وقتاً أطول لمراجعة الطلبات واتخاذ القرارات، مما يطيل من فترة البحث ويزيد من إحباط العديد من المتقدمين.
وأشارت جيني دياني، مديرة التوظيف التقنية العالمية في شركة «أوتوديسك»، الرائدة في مجال البرمجيات الهندسية والتصميم، إلى أن القائمين على التوظيف يواجهون عبئاً كبيراً بسبب العدد الضخم من المتقدمين.
وقالت: «أحد الأمور التي نسمعها بشكل متكرر هي أن المرشحين يبحثون عن الاستقرار». وأضافت أن القائمين على التوظيف باتوا الآن يتعاملون مع ثلاثة أضعاف عدد طلبات التوظيف التي كانوا يتعاملون معها خلال ذروة «الاستقالة العظمى»، ما جعل العملية أكثر تنافسية وتمتد لفترات أطول.
وقد تفاقمت هذه الحالة بسبب منصات مثل «لينكدإن»، التي تسمح للباحثين عن عمل بالتقدم للعديد من الوظائف بنقرة واحدة، مما أدى إلى تدفق هائل من المرشحين وجعل من الصعب على الأفراد التميز.
في الواقع، تلقت الوظائف الشاغرة في الشركات التي تستخدم منصة «غرين هاوس» متوسط 222 طلباً في الربع الأول من عام 2024، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف العدد مقارنة بنهاية 2021.
وأكد التقرير أنه رغم التحديات الكبيرة، توجد إشارات على أن أسوأ فترة في الركود الوظيفي المكتبي قد تكون وراءنا. فقد بدأ عدد الوظائف في قطاع التكنولوجيا في العودة للارتفاع، حيث تم نشر 223,000 وظيفة جديدة في عام 2024، بزيادة عن 144,000 وظيفة في نهاية عام 2023.
ورغم أن هذا الرقم لا يزال أقل من مستويات ما قبل الجائحة التي كانت تبلغ 322,000 وظيفة شاغرة، إلا أنه يعكس اتجاهاً إيجابياً.
وقال آرت زيلي، الرئيس التنفيذي لشركة «دايس»، وهي منصة وظائف في قطاع التكنولوجيا: «نحن نتعافى ببطء».