
في الأيام الأولى التي تلت الحرب الأوكرانية، تعرض الاقتصاد الروسي لهزة مع بدايات فرض العقوبات الأميركية والأوروبية، على النظام المالي الروسي، ما أسفر عن تراجع قيمة الروبل مقابل الدولار الأميركي، وقيام موسكو بغلق البورصة لعدة أيام، وخروج الشركات الغربية من البلاد.
وجعلت هذه الصدمة الأولى للعقوبات، الغرب يتوقع أن عقوباته ستؤدي إلى عواقب وخيمة للاقتصاد الروسي، وتتسبب في تراجع الناتج المحلي الإجمالي لموسكو بنسبة قد تتجاوز 15%، والقضاء على المكاسب الاقتصادية التي حققتها البلاد على مدار السنوات الماضية.
وفرض الاتحاد الأوروبي 10 حزم من العقوبات استهدفت القادة الروس، وحظر الطيران الرسمي، وتجميد الأصول بالخارج، واستبعاد البنوك الروسية من نظام سويفت العالمي، وتقييد الوصول إلى المؤسسات المالية والبنوك الغربية.
كما استهدفت العقوبات بشكل مركز قطاع الطاقة، عبر فرض قيود على استيراد النفط والغاز الروسيين، منها وضع سقف على سعر النفط الروسي ومنتجات البترول، وحظر تصدير تقنيات الاستكشاف والإنتاج المتقدمة للنفط والغاز إلى روسيا، وفرض قيود على تصدير معدات وتكنولوجيا الطاقة.
وبعد اقتراب الحرب الأوكرانية من إكمال عامين في فبراير المقبل، فإن توقعات الغرب باءت بالفشل، فمازال الاقتصاد الروسي يحقق نتائج جيدة، وجاءت مؤشراته أفضل بكثير مما كان يتوقع، ما يشير إلى أن روسيا استطاعت الصمود في مواجهة العقوبات الغربية المشددة لمرونة اقتصادها وقوته، وتعدد علاقاته التجارية الدولية.
وتتمتع روسيا بعلاقات تجارية قوية مع الصين والهند وهو ما ساعد في صمود اقتصادها، ومكنها من فتح أسواق جديدة للطاقة والتجارة بعد إغلاق الأسواق الغربية في وجهها، وارتفعت التجارة بين روسيا مع كلا البلدين، فيما استفادت روسيا من مبيعات السوق الموازية التي تُعرف باسم "الواردات الموازية" حيث وجدت المنتجات الغربية طريقها إلى روسيا مرة أخرى عبر طرف ثالث مثل الصين والهند وغيرها.
ويرى الكثير من المحللين أن الدول الغربية تضررت أكثر من روسيا بسبب العقوبات، وتجلى هذا في ارتفاع تكلفة الطاقة، وتعرضها لنقص حاد في الإمدادات، حيث واجهت العام الماضي شتاء قارسًا بسبب نقص الغاز، حتى أن بعض الدول كفرنسا اضطرت لقطع الكهرباء لفترات توفيرًا لاستهلاك الوقود، وشمل ذلك المباني الحكومية وبرج إيفل.
كذلك لم يتأثر إنتاج الطاقة الروسية بقدر كبير مقارنةً بحجم العقوبات المفروضة، إذ استمرت الدولة في إنتاج النفط والغاز، واتجهت صادراتها النفطية شرقاً رغم الانخفاض في كمية الإنتاج، بل إنه نتيجة لتلك العقوبات، ابتكرت روسيا في بعض الحالات تقنيات جديدة لاستخراج النفط والغاز.
وعرضت روسيا نفطها بخصم للمشترين الراغبين في آسيا، وارتفعت واردات الهند من النفط الروسي من قاعدة منخفضة إلى ذروتها في يونيو ويوليو من العام الماضي.
وأصبحت الهند والصين أكبر مشتريَين للنفط الروسي، ليستقطب البلدان معاً ما بين 60 و70% من مجمل صادرات النفط الروسي، ليعوض بذلك الاقتصاد الروسي تراجع صادراته للغرب.
ولم يتضح حتى الآن تأثير وضع الاتحاد الأوروبي سقف لأسعار النفط الروسي عند 60 دولارًا للبرميل، إذ كشف تحليل لمجلة "الإيكونوميست" عن استمرار ارتفاع مبيعات النفط الخام الروسية بسبب تزايد الطلب من الصين والهند.
ويقول الدكتور نبيل زكي، أستاذ الاقتصاد الدولي بمعهد نيويورك للعلوم المالية، إن الاقتصاد الروسي عنده من القوة والمتانة ما يَحُد من تأثير هذه العقوبات التي ارتدت سلبيا على مصالح دول الاتحاد الأوروبي وأميركا، فقد عانت أوروبا من ارتفاع تكاليف الطاقة ودفع مواطنوها فاتورة باهظة الثمن، حيث تعتمد أوروبا في 45% من احتياجاتها النفطية على روسيا.
وأضاف زكي في تصريحات لـ"إرم الاقتصادية" أنه حتى بالنسبة للعقوبات التي استهدفت قطاع الطاقة الروسي، كان هناك تباين واضح في مواقف الدول الأوروبية، خوفاً من تراجع أو توقف إمدادات النفط والغاز، مشيرًا إلى أن دولا مثل ألمانيا وإيطاليا تستوردان 53% و45% من احتياجات الغاز على التوالي من روسيا.
وأوضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استطاع تقوية اقتصاد بلاده منذ السيطرة على شبه جزيرة القرم في عام 2014، ما ساهم في تحسين مؤشراته خلال السنوات العشر الماضية، وتمكن من رفع الاحتياطي الأجنبي في البلاد إلى 650 مليار دولار، كما استطاع تقليص حجم الديون الخارجية من 750 مليار دولار إلى 145 مليار دولار، بما يوازي 18% من حجم الدخل القومي لروسيا.
من جانبه، لفت الدكتور مصطفى أبوزيد، رئيس مركز مصر للدراسات الاقتصادية، إلى أن ردود الفعل السريعة من قبل الحكومة الروسية على العقوبات كانت من أهم أسباب صمود اقتصادها في مواجهة الضغوط الغربية، وتجنب أي تداعيات سلبية، انحصرت في انخفاض قيمة الروبل أمام العملات الأجنبية.
وأضاف أبوزيد، في تصريحات لـ"إرم الاقتصادية"، أنه عندما فُرضت عقوبات مالية على روسيا ومُنعت من التعامل مع نظام سويفت، اتخذ البنك المركزي الروسي على الفور إجراءات حاسمة لدعم نظامه المالي خلال شهري فبراير ومارس من عام 2022، كما رفع أسعار الفائدة لمنع هروب الأموال من المصارف الروسية.
وأوضح أن العقوبات الغربية كان تأثيرها محدود جداً على الاقتصاد الروسي، ولم تشمل سلعاً استراتيجية، مثل القمح والزيوت، وحتى قطاع النفط والغاز الذي فرضت عليه عقوبات، لم يتم حظره تماما، وإنما تم تحديد سقف أعلى لأسعاره.
ولفت رئيس مركز مصر للدراسات الاقتصادية إلى أن الاتحاد الأوروبي كان من الصعب عليه فرض حظر كلي لاستيراد الطاقة من روسيا، لأنه يعتمد عليها في توفير 45% من احتياجاته من الغاز والنفط، وهذه كانت ورقة ضغط كبرى استطاع بوتين أن يستغلها للضغط على الدول الأوروبية وتحييدها عن القرارات الأميركية.
تتوافق الآراء السابقة، مع ما أعلنه الرئيس فلاديمير بوتين، على هامش القمة الروسية الكازاخستانية الخميس، من أن هيكل الاقتصاد الروسي يتغير بطريقة إيجابية للأفضل، مؤكدًا نمو قطاع الطاقة بأكثر من 3%، والصناعات التحويلية بنسبة 43%، مشيراً إلى أن هذا غير مسبوق في تاريخ روسيا الحديث.
كما يتوقع وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف، أن ينمو اقتصاد بلاده بنسبة 3% خلال العام الجاري عقب انخفاضه خلال العالم الماضي بنحو 2%، وفقاً لوكالة أنباء "تاس" الروسية.
إلى ذلك، قدر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الخميس، حجم الخسائر التي تكبدتها الشركات الأوروبية خلال العام ونصف العام الماضيين بسبب العقوبات الغربية ضد روسيا، بما لا يقل عن 250 مليار يورو، مشيرًا إلى أن العقوبات المفروضة على روسيا أدت إلى تفاقم أزمات الاقتصاد العالمي.
وقال لافروف، في تصريحات نقلتها وكالة "تاس" للأنباء: "إن روسيا تمكنت من تغيير وتوسيع جغرافية صادرات الطاقة، والبلاد تنفذ إصلاحات وتعزز سيادتها في قطاع الطاقة"، مشيراً إلى أن بلاده تمكنت في وقت قصير للغاية من تحويل إمدادات النفط والغاز والفحم إلى الأسواق الواعدة سريعة النمو، وفي المقام الأول الهند والصين ودول أخرى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأمريكا الجنوبية.
في السياق ذاته، كشفت بيانات اقتصادية نشرتها وكالة بلومبرغ للأنباء، عن بدء تعافي صادرات المنتجات النفطية الروسية بفضل زيادة صادرات الوقود، بعد تراجع صادرات المنتجات النفطية نتيجة القيود المفروضة على تصدير السولار وعمليات الصيانة الموسمية للمصافي.
وأظهرت بيانات شركة فورتيكسا ليمتد للاستشارات والتحليلات الاقتصادية، ارتفاع إجمالي صادرات المنتجات النفطية الروسية خلال الأسبوع المنتهي في 4 نوفمبر الجاري لتسجل نحو 2.5 مليون برميل يومياً، وهي أكبر صادرات يومية منذ شهر سبتمبر الماضي عندما قررت الحكومة فرض حظر على تصدير وقود السيارات.
وأشارت بلومبرغ إلى أنه من المتوقع استمرار نمو صادرات المنتجات النفطية الروسية خلال الفترة المقبلة مع زيادة إنتاج المصافي عقب انتهاء عمليات الصيانة الموسمية، كما أن تأخير بعض الشحنات بسبب اضطراب الأحوال الجوية خلال الشهر الماضي يمكن أن يساهم في زيادة الصادرات حالياً.