بينما يتزايد الضغط على الاقتصاد المصري بفعل تحديات خارجية وداخلية متشابكة، يعود برنامج الطروحات الحكومية مجدداً إلى صدارة المشهد الاقتصادي، مدفوعاً بشروط صندوق النقد الدولي واحتياجات البلاد للنقد الأجنبي.
قبل أيام، أعلن وزير المالية المصري، أحمد كجوك، عن قرب تنفيذ 4 طروحات، في محاولة لإعطاء دفعة لسوق المال وتعزيز الثقة في الاقتصاد المصري.
وفقاً لتقرير وزارة المالية الشهري الصادر عن شهر مايو الماضي، فإن الحكومة المصرية تستهدف طرح حصص في 11 شركة مملوكة لها ضمن برنامج الطروحات الحكومية خلال العام المالي الجاري 2025 – 2026، بقيمة تتراوح ما بين 3 إلى 4 مليارات دولار.
بحسب التقرير، فإن من بين تلك الشركات خمس شركات تابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، يجري إعادة هيكلتها عن طريق صندوق مصر السيادي تمهيداً لطرحها قبل عام 2026.
تشمل هذه الشركات: شركة «وطنية» لتشغيل محطات الوقود، و«صافي» للمياه المعبأة، و«سيلو فودز» للصناعات الغذائية، و«تشيل أوت» لتوزيع الوقود، والشركة الوطنية للطرق.
ويجري «صندوق مصر السيادي» مراجعة شاملة لبرنامج الطروحات الحكومية، بهدف توسيع قاعدة الشركات المستهدفة لتشمل ما بين 40 إلى 60 شركة، ارتفاعاً من 35 شركة في القائمة الحالية، وفقاً لتقرير وزارة المالية الذي أشار إلى أن الحكومة المصرية نفذت حتى الآن نحو 21 صفقة ضمن برنامج الطروحات، محققة حصيلة إجمالية تُقدّر بنحو 6 مليارات دولار.
منذ أوائل التسعينيات، تبنّت مصر برنامج خصخصة واسع النطاق، مدعوماً من مؤسسات التمويل الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، وشمل البرنامج عشرات الشركات العامة في قطاعات استراتيجية مثل الأسمنت، والبنوك، والاتصالات، والصناعات الثقيلة.
كان الهدف المعلن هو تعزيز الكفاءة الاقتصادية وتقليل العبء على الدولة، لكن هذه الموجة الأولى من الخصخصة أثارت قضايا عميقة تتعلق بآثارها الاجتماعية، خاصة على العمال والدخل القومي.
يوضح رئيس مركز العاصمة للدراسات الاقتصادية، الدكتور خالد الشافعي، في حديث مع «إرم بزنس»، أن توجه الدولة الحالي في طرح شركات جديدة للخصخصة، سواء عن طريق بيعها في البورصة المصرية أم لمستثمر رئيس، يأتي استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي.
يرى الشافعي أن الطروحات الجديدة يمكن أن تؤدي إلى تحقيق انتعاشة للاقتصاد المصري وتوفير حصيلة دولارية للموازنة العامة للدولة، لكنه يطالب بأن يتم تقييم الشركات بناءً على القيمة السوقية الحقيقية لها.
كشف صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير الصادر في يونيو الماضي، أن هناك تقدّماً في الإصلاحات الهيكلية ضمن اتفاقية القرض، إلا أن هذا التقدّم كان متفاوتاً، ولم يحدث سوى تطور محدود في تقليص دور الشركات المملوكة للدولة، والتي لا تزال تتمتع بمعاملة تفضيلية، تشمل إعفاءات ضريبية، وإمكانية الوصول إلى الأراضي الرئيسية، والعمالة الرخيصة.
وفقاً للتقرير، فإن هذه الشركات لا تزال إلى حد كبير بمنأى عن التدقيق العام، مع شفافية محدودة للغاية بشأن وضعها المالي، مشيراً إلى أن مصر تعتمد على نموذج نمو تقوده الدولة ويركّز على المشاريع الضخمة والاستثمار العام، وهو ما يُعيق خلق فرص العمل ويُضعف من أداء القطاع الخاص في بيئة عالمية متقلبة.
فيما حذّر الصندوق من أن التشوهات المالية واختلالات تخصيص الموارد الناتجة عن هذا النموذج، تركت مصر باقتصاد غير رسمي واسع النطاق، وجعلتها أكثر ضعفاً في مواجهة الصدمات المالية والجيوسياسية والمناخية المتزايدة.
يُضاف إلى هذه التحديات سلسلة من الصدمات الخارجية، مثل الحرب في السودان واضطرابات البحر الأحمر، والتي أدت إلى انخفاض إيرادات قناة السويس بمقدار 6 مليارات دولار خلال العام الماضي، ما زاد تعقيد المشهد الاقتصادي.
توقّع صندوق النقد الدولي أن يرتفع الدين الخارجي لمصر من 162.7 مليار دولار في العام المالي 2024/2025 إلى نحو 202 مليار دولار بحلول 2029/2030.
أكد التقرير أن الدين العام يشكّل خطراً كبيراً على الاستقرار السيادي، داعياً السلطات المصرية إلى توسيع القاعدة الضريبية، والتخلص التدريجي من الدعم غير الموجّه، وزيادة الرقابة على الكيانات غير المدرجة في الموازنة العامة.
بالنظر إلى الإحصاءات، يبدو أن مصر أمام تحديات كبيرة، إذ توقّع الصندوق في تقريره الصادر في أبريل الماضي، أن يصل إجمالي الدين العام للحكومة (المحلي والخارجي) إلى 92.9% من الناتج المحلي الإجمالي، ما دفع وكالات التصنيف الائتماني العالمية إلى خفض تقييمها لتصنيف مصر الائتماني من «مستقر» إلى «سلبي»، وسط مخاوف متزايدة من احتمال تخلفها عن سداد ديونها السيادية.
في حديثه مع «إرم بزنس»، يقول أستاذ الاقتصاد الدكتور إبراهيم نوار إن الحكومة لم تنجح في اجتياز متطلبات صندوق النقد الدولي في المراجعة الدورية الخامسة لقرض التسهيلات الممددة، الموقّع بتاريخ 16 ديسمبر 2022 لمدة 46 شهراً، والمقرر أن ينتهي في العام القادم.
يرجع نوار عدم إتمام المراجعة الخامسة إلى ما وصفه بتراخي الحكومة في التخارج من الأنشطة الاقتصادية، والبطء في تنفيذ إجراءات تحقيق الشفافية، خصوصاً فيما يتعلق بالرقابة المالية على الشركات المملوكة لأجهزة الدولة.
يُضاف إلى ذلك التردد في تنفيذ سياسة ضريبية لزيادة الإيرادات، من خلال إلغاء مزايا الإعفاءات الممنوحة لصناديق تملكها الدولة، وكذلك استثمارات مملوكة لمستثمرين أجانب، فضلاً عن عدم كفاية الموارد المخصصة للحماية الاجتماعية، ما أدى إلى اتساع نطاق الفقر، وعدم تحسن مؤشرات القضاء على الأمية.
يحذر نوار من أن الصورة حالياً مليئة بالتحديات، في ظل الارتفاع الكبير في قيمة خدمة الدين العام (الأقساط والفوائد)، وعودة أسعار الفائدة على أدوات تمويل الدين العام إلى الارتفاع من جديد.
وقال نوار إنه في الأجل المتوسط، ليس أمام الحكومة المصرية للحصول على تمويل خارجي ملائم سوى زيادة الضرائب، والتوسع في الاقتراض من الخارج.