بينما تواجه سوريا واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم، تتزايد دعوات حلفاء الولايات المتحدة والمحللين الأمنيين للإدارة الأميركية لإعادة النظر في سياسة العقوبات المتشددة.
ومع استعداد الرئيس دونالد ترامب لجولة إقليمية إلى السعوديةوقطر والإمارات الشهر الجاري، تزداد الضغوط لإعادة تقييم السياسات، ما قد يفتح الباب أمام انخراط محدود مع القيادة المؤقتة الجديدة في سوريا، ويحول دون توسع النفوذ الصيني والروسي والإيراني.
ووفقاً لتقرير «المجلس الأطلسي»، لا يزال الموقف الأميركي غامضاً حتى الآن. فالعقوبات المستمرة والرسوم الجمركية المتقطعة قد بعثت رسائل متناقضة حول نية واشنطن في إعادة بناء علاقاتها مع دمشق. وفي حال تحوّلت هذه المقاربة إلى سياسة ثابتة، يحذر الخبراء من أن الولايات المتحدة قد تفوت فرصة نادرة لإعادة تشكيل التوازن الإقليمي بعد انهيار نظام بشار الأسد.
تعاني البلاد من نقص حاد في الكهرباء، وتدهور كبير في الخدمات العامة، وانعدام الأمن الغذائي الذي يؤثر على أكثر من 12.9 مليون شخص، وفقاً لتقديرات دولية. وتُعقّد هذه الأوضاع المتدهورة جهود عودة اللاجئين السوريين، وتغذي حالة عدم الاستقرار في محافظات لا تزال منقسمة بفعل التوترات الطائفية والعرقية.
ويحذر المحللون من أن الانهيار المتسارع يعمّق تفكك سوريا، مما يتيح لواشنطن فرصة للعب دور حاسم في المرحلة المقبلة. ويشيرون إلى أنه في حال عدم إعادة الانخراط، فإن سوريا قد تصبح أكثر اعتماداً على روسيا والصين، اللتين بدأتا بالفعل في وضع أسس مرحلة ما بعد الأسد لإعادة الإعمار.
ورغم أن هيئة تحرير الشام أعلنت حل نفسها رسمياً في وقت سابق هذا العام، واندمجت في الهيكل الحاكم الجديد، فإنها لا تزال مدرجة على قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية لدى الولايات المتحدة، وهو ما يشكل عائقاً مستمراً أمام المساعدات والاستثمارات الدولية.
المسؤولون الأميركيون لا يزالون يشككون في نوايا الشرع الإصلاحية. وقال سيباستيان غوركا، مدير مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي: «هل أصلح نفسه؟ هل أصبح رجلاً أفضل الآن؟ هذا لا يزال غير واضح». ومع ذلك، بدأت عدة دول حليفة، بما فيها تركيا ودول الخليج، توسع علاقاتها بحذر مع الحكومة الجديدة.
بينما تواصل إدارة ترامب تبني موقف حذر، بدأت قوى رئيسة في أوروبا والشرق الأوسط باتخاذ خطوات فعلية. ففي الأشهر الأخيرة، رفع الاتحاد الأوروبي عقوبات محددة عن كيانات سورية، فيما أفرجت المملكة المتحدة عن أصول 24 مؤسسة، من بينها البنك المركزي السوري والخطوط الجوية الوطنية وشركات طاقة مملوكة للدولة.
وفي أبريل، تعهدت السعودية بسداد ديون سوريا المستحقة للبنك الدولي، بينما أطلقت قطر مبادرة معتمدة أميركياً لتزويد سوريا بالغاز الطبيعي عبر الأردن لتخفيف أزمة الكهرباء.
لكن هذه الجهود تواجه عقبات تنظيمية، إذ إن تجديد «الترخيص العام رقم 24» (GL24) كل ستة أشهر، والذي يسمح ببعض المعاملات الإنسانية والإعمارية، جعل البنوك والجهات المانحة مترددة. وطالما بقيت العقوبات الأميركية سارية، سيبقى المستثمرون العالميون بعيدين عن السوق.
تتعدى تداعيات السياسة الأميركية الجانب الإنساني، لتشمل عواقب جيوسياسية واسعة. فقد تراجع نفوذ إيران في سوريا بشكل ملحوظ بعد سقوط الأسد. ومع تصعيد إسرائيل لهجماتها على حزب الله وتراجع نشاط الميليشيات العراقية، باتت دمشق تمثل آخر حلقة في المحور الإيراني بالمنطقة.
ويرى محللون أميركيون أن التعاون مع السلطات السورية المؤقتة قد يساعد في القضاء على ما تبقى من شبكات اللوجستيات الإيرانية، خصوصاً على الحدود السورية-اللبنانية، حيث تموّل شبكات تهريب السلاح والمخدرات ميليشيات بالوكالة. ويمكن أن تقدم الولايات المتحدة دعماً استخباراتياً ولوجستياً للقوات السورية واللبنانية لتعطيل هذه الشبكات.
أما روسيا، فلا تزال تحتفظ بوجود عسكري وعلاقات عميقة مع النخبة السابقة في سوريا، حيث أبدت موسكو اهتماماً بالحفاظ على دورها في سوريا بعد الأسد. كما تتحرك الصين بدورها من خلال اتفاقيات تجارية ومشاريع بنية تحتية والدبلوماسية الثقافية.
ووفقاً لتحليلات «المجلس الأطلسي»، فإن استراتيجية الرئيس الصيني شي جينبينغ تمثل تحدياً مباشراً للهيمنة الأميركية. ويرى محللون أن عدم إعادة الانخراط الأميركي قد يفسح المجال لمنافسين لترسيخ نفوذهم في مستقبل سوريا.
ساهمت العقوبات الأميركية وفرض رسوم جمركية بنسبة 41% على السلع السورية لفترة وجيزة في تقويض فرص الانخراط الاقتصادي مع سوريا. ومع ذلك، يرى بعض الخبراء أن تخفيف القيود وتشجيع الاستثمارات الأميركية الخاصة يمكن أن يوفر لدمشق بدائل عن الاعتماد على الصين وروسيا.
لكن لا يزال موقف الإدارة الأميركية منقسماً، إذ أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية، تامي بروس، أن «أي تخفيف للعقوبات يعتمد على تصرفات السلطات المؤقتة». وتشمل الشروط رفض الإرهاب، وإخراج المقاتلين الأجانب، والحد من النفوذ الإيراني، وحماية الأقليات، وتفكيك ترسانة الأسلحة الكيميائية.
لكن المنتقدين يرون أن هذه الشروط فضفاضة وبطيئة التنفيذ، مقارنة بحجم الانهيار في سوريا. ويدفع بعض أعضاء الكونغرس نحو نهج أكثر مرونة، إذ أعلن النائب كوري ميلز عن خطط لتقديم مشروع قانون يسمح بتعليق العقوبات لفترة أطول بهدف تلبية الاحتياجات الإنسانية وخدمة المصالح الأميركية في المنطقة.
ومع ذلك، تبقى العوائق القانونية قائمة، حيث يفرض قانون «قيصر لحماية المدنيين في سوريا» لعام 2019 عقوبات واسعة على الشركات التي تتعامل مع الكيانات السورية الرسمية، بالإضافة إلى تصنيف البنك المركزي السوري كمصدر لغسل الأموال. كما أن تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب منذ عقود يقيّد التجارة والمساعدات بشدة.
فرصة ناشئة... أم خطر متجدد؟
رغم حالة الغموض، يرى البعض أن الفرصة لا تزال قائمة، فالقيادة الجديدة في سوريا تبدو منفتحة على البدائل، ونفوذ إيران في تراجع، واللاعبون الإقليميون يبدون استعداداً للاستثمار. لكن في ظل غياب القيادة الأميركية، قد يشغل آخرون هذا الفراغ.
وحذّر أحد المحللين قائلاً: «إذا انتظرت الولايات المتحدة عقداً من الزمن، فقد تجد سوريا مرة أخرى تحت سيطرة وكلاء إيران وفي طريقها إلى الانهيار».
الخيار المطروح أمام واشنطن واضح، وإن لم يكن سهلاً: الانخراط بحذر لإعادة تشكيل سوريا ما بعد الأسد، أو المخاطرة بأن تسبقها القوى المنافسة التي بدأت بالفعل في الرهان على مستقبل سوريا.