لم يعد التوتر بين أهداف مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)- تحقيق التوظيف الكامل واستقرار الأسعار- هو الشاغل الأكبر في الوقت الراهن، بل يواجه البنك المركزي معضلة جديدة غير مسبوقة: هل عليه أن يدعم سوق العقارات المتراجع، أم أن عليه مجاراة الازدهار الهائل في الاستثمارات بمجال البنية التحتية التكنولوجية، لا سيما الذكاء الاصطناعي؟
فعلى الرغم من جهود الفيدرالي، لم يصل حتى الآن إلى هدفه المتمثل في تحقيق نسبة تضخم تبلغ 2%، والأسواق والمستهلكون لا يبدو أنهم يتوقعون تحقيق هذا الهدف في القريب العاجل، حتى قبل احتساب آثار الرسوم الجمركية المرتفعة، بحسب تقرير رويترز.
وفي الوقت نفسه، لا يزال الجدل بشأن سوق العمل غامضاً بسبب قلة حالات التسريح من العمل وانخفاض طلبات إعانات البطالة، إلى جانب انخفاض معدل البطالة، الذي قد يُعزى إلى التراجع في معدلات الهجرة والنقص في العمالة.
وباستثناء الضغوط السياسية المكثفة، لا تشير المؤشرات الكلاسيكية إلى أي حاجة واضحة لتيسير السياسة النقدية أو حتى مجرد تخفيفها. لكن المعضلة الحقيقية التي تواجه الفيدرالي اليوم تتمثل في التناقض بين النمو المتسارع في قطاع الذكاء الاصطناعي والتدهور المستمر في سوق العقارات.
فإذا لجأ البنك المركزي إلى خفض أسعار الفائدة لإنعاش سوق العقارات، فقد يغذي بذلك جنون الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا ويقضي تماماً على فرص تحقيق استقرار الأسعار. أما إذا استمر في الإبقاء على أسعار فائدة مرتفعة لكبح جماح قطاع الذكاء الاصطناعي، فقد يُفاقم الأزمة في قطاع العقارات، الذي يشكل أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
شهد مؤشر ثقة شركات التطوير العقاري الأميركية هذا الشهر تراجعاً إلى أدنى مستوياته منذ أكثر من عامين ونصف العام. فقد قامت أكثر من ثلث شركات البناء السكني بتخفيض أسعارها، بينما قدم الثلثان الآخران حوافز لجذب المشترين المترددين بسبب استمرار أسعار الفائدة المرتفعة على الرهن العقاري. كما اقترب مخزون المساكن الجديدة من المستويات التي سُجلت في أواخر عام 2007.
ورغم تسجيل زيادة في عدد المشاريع التي بدأت في يوليو، فإن عدد تصاريح البناء — وهو مؤشر أساسي على النشاط المستقبلي — انخفض بنسبة 2.8% ليصل إلى أدنى مستوى له خلال خمس سنوات.
أحد أكبر التحديات يكمن في جمود المالكين الحاليين، وهو أحد نتائج فترة أسعار الفائدة المنخفضة للغاية في الماضي. فعلى الرغم من أن متوسط سعر الفائدة على القروض العقارية الثابتة لمدة 30 عاماً انخفض إلى 6.67% (أدنى مستوى له في أربعة أشهر حتى 8 أغسطس)، فإنه لا يزال أعلى بأكثر من 2.5 نقطة مئوية من متوسط أسعار الفائدة على القروض العقارية القائمة حالياً.
ونتيجة لعدم وجود إمكانية لنقل القروض بين العقارات، يتردد المالكون الذين يتمتعون بقروض منخفضة التكلفة في البيع أو الانتقال، نظراً لأنهم سيضطرون للحصول على قروض جديدة بأسعار أعلى بكثير. ولأول مرة، أصبح السعر الوسيط للمنازل القائمة أعلى من نظيره للمنازل الجديدة.
هذا الخلل في السوق العقارية يعزز حجج إدارة ترامب، التي تدعو إلى خفض سريع في أسعار الفائدة. لكن جيسون توماس، مدير الأبحاث العالمية في مجموعة كارلايل، يرى أن هناك توجهاً عقارياً آخر لا يمكن للفيدرالي تجاهله: الاستثمارات الهائلة التي تُضخ حالياً في مراكز البيانات الخاصة بالذكاء الاصطناعي — بمئات المليارات من الدولارات، مع وعود بمليارات إضافية في المستقبل القريب، في ظل تسارع وتيرة القطاع.
وبحسب توماس، فإن الحاجة الضخمة إلى رؤوس الأموال لتمويل توسع الذكاء الاصطناعي، إلى جانب الضغوط على المدخرات الناجمة عن العجز الفيدرالي المتوقع أن يتجاوز 6% من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الثلاث المقبلة، تعني أن خفض الفائدة الآن قد يؤدي إلى خطر حقيقي يتمثل في سخونة الاقتصاد بشكل مفرط.
ويضيف توماس: «السؤال لا يتعلق بما إذا كانت أسعار الفائدة المرتفعة ستؤدي إلى إقصاء قطاعات حساسة مثل العقارات السكنية — فهذا أمر بديهي. السؤال الحقيقي هو: إلى أي مدى يجب أن يمتد هذا الإقصاء لتحقيق هدف استقرار الأسعار؟»
ويتابع: «الفيدرالي لم ينجح في تحقيق هدف التضخم حتى مع هذه المستويات المرتفعة من الفائدة، التي أثرت بالفعل على دخول وإنفاق الأسر المرتبطة بالعقارات. فما مدى احتمال نجاحه إذا بدأ الآن سلسلة من خفض أسعار الفائدة تحفّز القطاع من جديد؟»
بالطبع، يعلم الفيدرالي أن تأثير قراراته لا يظهر إلا بعد فترة زمنية، غالباً لا تقل عن عام. وقد يراهن على أن المشهد الاقتصادي سيتغير خلال هذه الفترة، سواء عبر تراجع في استثمارات الذكاء الاصطناعي، أو ركود في الاستهلاك بفعل الرسوم الجمركية، أو حتى زيادة البطالة جراء أزمة عقارية أعمق.
لكن التنبؤ بهذه السيناريوهات الآن لا يرقى إلى مستوى التوقعات العلمية بقدر ما يدخل في باب الرهان والمخاطرة. وقد تتفاعل توقعات التضخم وأسواق السندات طويلة الأجل بقوة ضد أي تخفيف مبكر وغير مدروس في السياسة النقدية.