بين حاويات جمع القمامة وعبوات البلاستيك، يختبئ اقتصاد موازٍ يعكس وجهاً آخر لتونس؛ ففي الشوارع الخلفية وتحت شمس لافحة أو برد قارس، يمضي «البرباشة» يومهم بين الحاويات، بحثاً عن أي قارورة بلاستيكية؛ ما يشكل انعكاساً للأزمة الاقتصادية وأزمة الهجرة.
ويزداد عدد «نبّاشي القمامة» أو «البرباشة» باللهجة العامية في تونس، رغم أنه عمل شاق ومرهق بدنياً ونفسياً، ومحفوف بالمخاطر الصحية في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية التي تدفع آلاف الرجال والنساء، والمهاجرين أيضاً، إلى البحث عن الحياة وسط النفايات.
تعاني تونس من تباطؤ النمو الاقتصادي الذي سجل 1.6% في الربع الأول من عام 2025، وارتفاع معدلات الفقر التي وصلت إلى 16.6%، بحسب نتائج المسح الوطني حول مستوى الإنفاق والاستهلاك ومعيشة الأسر لعام 2021.
كما لا تزال الأزمة الاقتصادية تلقي بثقلها في تونس مع بطالة تناهز 15.7% خلال النصف الأول من العام الجاري وتضخم 5.3% تم تسجيله في يوليو الماضي.
فيما يعيش نحو 26% من إجمالي 4.3 مليون طفل في تونس، تحت خط الفقر، وفق دراسة لمنظمة «اليونيسف» بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات الاجتماعية (CRES) ووزارة الشؤون الاجتماعية.
وأظهرت الدراسة، المنشورة على موقع «اليونيسف»، وجود تفاوت ملحوظ في معدلات فقر الأطفال بين المناطق، حيث يصل معدل الفقر في الأرياف إلى 36%، مقابل 20% في المناطق الحضرية.
منذ العام الماضي، تزايد عدد العاملين في هذه المهنة مع انضمام مهاجرين غير نظاميين من دول إفريقيا جنوب الصحراء للعمل في اقتصاد النفايات أيضاً عبر جمع القوارير البلاستيكية والألومنيوم وبيعها، إذ تنتج تونس سنوياً نحو 2.5 مليار قارورة ماء و2.4 مليار كيس بلاستيكي، و2.6 مليون طن من النفايات.
وتقدّر منظمة «إنترناشيونال اليرت» (غير حكومية) عدد «البرباشة» في تونس بـ8 آلاف شخص، بينهم 800 في حي التضامن بالعاصمة فقط، فيما تشير الغرفة الوطنية لمجمعي النفايات البلاستيكية إلى وجود نحو 25 ألف شخص ينشطون في هذا المجال، 40% منهم في العاصمة.
وأظهرت دراسة حديثة اطلعت عليها «إرم بزنس» صدرت عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية شملت 144 جامع قمامة، أن 77% منهم رجال، و23% نساء، وأن غالبية العمل خارج المصب الرسمي، في الشوارع العامة.
الأكاديمي التونسي، سفيان جاب الله، يرى أن «البرباشة» يمثلون مؤشراً للفقر وارتفاع نسبة البطالة، وهم من أفقر فئة وسط أفقر طبقة.
ويؤكد جاب الله في حديثه مع «إرم بزنس» أن هؤلاء الأفراد – رجالًا ونساءً – ينتشرون في محيط حاويات القمامة أو داخل مصبات النفايات، سواء كانت نظامية أو عشوائية، ويمارسون نشاطهم بطريقة غير قانونية، حيث يفرزون القمامة بحثاً عن مواد قابلة للبيع مثل البلاستيك، والألومنيوم والحديد، بغرض بيعها لوسطاء أو لشركات إعادة التدوير.
رغم أن العائد اليومي من هذا النشاط متواضع ويتراوح بين 20 و40 ديناراً تونسياً (ما يعادل 6 إلى 7 دولارات)، فإن الظاهرة ترتبط مباشرة بالهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، وهي فئة لا تنتمي إلى القطاع العام أو الخاص، وغالباً ما تسكن في الأحياء المهمشة.
وينحدر معظم «البرباشة» في تونس من مناطق الوسط والشمال الغربي والجنوب الغربي، حيث تقل فرص التنمية الاقتصادية، وتُبنى علاقاتهم الاجتماعية على أسس القرابة والانتماء القبلي، في ظل غياب الروابط القانونية أو المؤسسية الحديثة.
ويشير جاب الله إلى أن هذا النمط من الاقتصاد الموازي يقوم على علاقات دموية وعائلية، ويُشكّل نوعاً من التضامن القبلي حول موارد حيوية، ويشكلون مجتمعاً متماسكاً داخل منظومة الفرز وإعادة التدوير.
ويضيف أن مثالاً على ذلك يمكن رصده في «قبيلة الفراشيش»، التي ينحدر أفرادها من وسط الغرب ويقيمون في حي «النور» بالعاصمة تونس، حيث يسيطرون على مصب «برج شاكير» ويمنعون أي أطراف أخرى من العمل فيه، ما يكرّس نمطاً من الاحتكار الاجتماعي حول مصدر دخل غير رسمي.
ويفرّق جاب الله بين نوعين من «البرباشة» النوع الأول هو «البرباش الحقيقي»، وهو من يستخدم عربة أو دراجة نارية ويتنقل لمسافات طويلة عبر الأحياء لجمع النفايات القابلة للبيع.
أما النوع الثاني «البرباش المتجول»، وهو من يجمع بضع زجاجات بلاستيكية في كيس دون أدوات مساعدة، وغالباً ما يكون رجلاً مسناً أو امرأة بصحبة طفلها، ولا يملك وسيلة نقل أو قدرة على التنقل بين الأحياء.
بدوره، يعتبر الخبير الاقتصادي وليد بلحاج أن تنامي ظاهرة «البرباشة» في تونس ليس مجرد مسألة اجتماعية هامشية، بل هو انعكاس مباشر لاختلالات الاقتصاد الكلي.
وفي حديثه مع «إرم بزنس» أشار بلحاج إلى أن ارتفاع نسب البطالة إلى حدود 16% وتواصل غلاء المعيشة مع تضخم يناهز 5.3%، يدفع فئات واسعة إلى البحث عن مصادر دخل في القطاع الموازي، حيث تعد مهنة جمع النفايات وإعادة التدوير من آخر الملاذات المتاحة للبقاء.
ويوضح أن هذا النشاط ينمو في ظل غياب سياسات عمومية فعالة لاحتواء الفقر وتوفير فرص عمل لائقة، خاصة في المناطق الداخلية المهمشة التي تُصدّر اليد العاملة إلى المدن الكبرى.
ويرى أن «البرباشة» يمثلون مؤشراً اقتصادياً حساساً، فزيادة أعدادهم تعكس تراجع القدرة الشرائية واتساع دائرة الاقتصاد غير المنظم؛ ما يقلص مداخيل الدولة الضريبية ويضعف قدرتها على تمويل الخدمات الأساسية.
وتكشف بيانات المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية، وهو جهة مستقلة، أن الاقتصاد الموازي يمثل 40% من الناتج المحلي الإجمالي ما يعادل نحو 70 مليار دينار (22.58 مليار دولار).
كما يلفت بلحاج الانتباه إلى أن استمرار هذه الظاهرة دون تنظيم قانوني وإدماجها في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، سيكرّس دوامة الفقر ويزيد هشاشة النسيج الاجتماعي، خاصة مع دخول مهاجرين غير نظاميين إلى هذا المجال؛ ما قد يخلق منافسة أكبر على موارد محدودة أصلاً.