منصات إلكترونية ذكية تتيح الاستجابة الفورية للملاحظات ومتابعة تنفيذها
في خطوة تهدف إلى تعزيز كفاءة الرقابة المالية والإدارية في الأردن، يمضي ديوان المحاسبة في تنفيذ خطة تحول رقمي شاملة تمتد حتى عام 2027، تقوم على توظيف أدوات رقمية متقدمة، وتحليل البيانات الضخمة، وبناء قدرات مؤسسية جديدة لمتابعة الأداء العام وحماية المال العام ضمن رؤية حديثة ترسّخ الشفافية والحوكمة.
رئيس ديوان المحاسبة الأردني راضي الحمادين أكد في مقابلة خاصة مع «إرم بزنس» أن هذه النقلة تمثل تحوّلًا غير مسبوق في آليات العمل الرقابي، وتفتح مرحلة جديدة في طبيعة العلاقة بين الديوان والجهات الخاضعة للرقابة، عبر منصات إلكترونية ذكية تتيح الاستجابة الفورية للملاحظات ومتابعة تنفيذها ضمن أطر زمنية ملزمة.
من داخل مكتبه في عمان، يصف الحمادين ما يجري بأنه «نقلة نوعية غير مسبوقة»، مشيراً إلى أن الرقابة الورقية التقليدية لم تعد تواكب حجم الإنفاق ولا تعقيدات الإدارة الحديثة. ولهذا، جرى تطوير نموذج رقابي قائم على التكنولوجيا والتحليل الرقمي التنبؤي، يتيح تقييم المخاطر وتحديد الأولويات في الوقت الفعلي.
نقطة التحول الكبرى بدأت في أبريل 2025، مع إطلاق أول برمجية وطنية لمتابعة المخرجات الرقابية، تُتيح تصنيف الملاحظات حسب درجة الخطورة، وتُلزم الجهات الخاضعة للرقابة بالرد خلال مدد محددة عبر النظام الإلكتروني. ويُطلب من كل مؤسسة تعيين ضباط ارتباط أصيلين وبدلاء لتحديث البيانات والتفاعل مع الملاحظات.
وأشار الحمادين إلى أن هذا التحول يهدف إلى الانتقال من الرقابة "اللاحقة" إلى الرقابة "الحينية"، مع تتبّع الأداء الفعلي وتقديم تغذية راجعة لحظية، ما يرفع من كفاءة القرار الإداري، ويقلل من الهدر المؤسسي.
وأوضح رئيس الديوان أن الخطة الرقمية ترتكز على خمسة محاور رئيسة، من بينها رفع كفاءة الكوادر البشرية. وقد بدأ تدريب موظفي الديوان والجهات الخاضعة للرقابة على أدوات التحليل الرقمي وبرمجيات المتابعة، بالشراكة مع معاهد مالية دولية وخبراء تدقيق نظم المعلومات.
وأضاف أن تحليل البيانات الضخمة أصبح أداة أساسية في العمل الرقابي، حيث يتيح كشف المخاطر والاختلالات المحتملة بشكل مبكر، ويعزز اتخاذ القرارات استنادًا إلى معلومات دقيقة، لا إلى التقديرات أو الانطباعات.
التحول الرقمي بدأ يُترجم إلى نتائج عملية. فبحسب الحمادين، ارتفعت نسبة استجابة الجهات الحكومية لملاحظات الديوان من 21% في عام 2022 إلى 58% في عام 2023، وهو ما يعكس تحولًا في الثقافة المؤسسية نحو احترام الأدوات الرقابية والاستفادة منها في تحسين الأداء.
الرقابة اليوم تشمل 365 جهة رسمية، من وزارات وهيئات مستقلة وجامعات وبلديات وشركات حكومية، جميعها باتت ملزمة باستخدام النظام الرقمي الجديد في الاطلاع على الملاحظات ومتابعة التنفيذ، ما قلّل من الهدر الزمني ورفع كفاءة التفاعل المؤسسي.
كما لوحظ تراجع ملموس في تكرار المخالفات الإدارية والمالية، وهو ما يُعزى إلى تحديث الأنظمة الإلكترونية الداخلية، وتعزيز ثقافة المساءلة، وتحسين البيئة التشريعية التي تنظم العمل الرقابي.
تغيّرت أيضاً طبيعة التقارير الرقابية. فبدلاً من الاقتصار على توثيق المخالفات، أصبحت تقارير ديوان المحاسبة تتضمن مؤشرات أداء وتحليلات كمية وتوصيات تنفيذية قابلة للقياس، وتُنشر إلكترونيًا على الموقع الرسمي، ما يعزز الرقابة المجتمعية ويُرسّخ مبدأ الشفافية.
ويتوقع صدور تقرير عام 2024 قبل نهاية العام الحالي، ليكون "نقلة نوعية في المضمون والتحليل"، وفق تعبير الحمادين، حيث سيركز على جودة الإنفاق العام وفعالية الإدارة، وليس فقط على عدد التجاوزات.
في المرحلة المقبلة، يعتزم الديوان إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي ضمن أدوات التحليل، لا سيما في مراجعة قواعد البيانات ونظم المعلومات. وقد شُكلت لجان تقنية متخصصة لهذا الغرض، ويجري التعاون مع خبراء دوليين ومؤسسات رقابية أوروبية، ضمن مشاريع توأمة وتبادل خبرات.
يرى الحمادين أن الرقابة لا تكتمل من دون دور مجتمعي فاعل، مؤكدًا أن نشر المعلومات يتيح للمواطن الاطلاع والمساءلة، ويحيل المال العام إلى قضية رأي عام. وأشاد بدور الإعلام كشريك أساس في ترسيخ الشفافية والمساءلة.
وفي الجانب الإقليمي، تربط ديوان المحاسبة الأردني علاقات متينة مع نظيره الإماراتي ضمن مذكرة تفاهم نشطة، نُفذت بموجبها برامج تبادل كفاءات، ويشارك الطرفان في ملتقيات رقابية عربية مشتركة. كما يُحضر الديوان لإجراء أول مراجعة نظير (Peer Review) في تاريخه، وفق معايير المنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة (INTOSAI).
باختصار، يرسّخ ديوان المحاسبة الأردني اليوم نموذجًا رقابيًا عصريًا يواكب تحوّلات الدولة الرقمية، ويضع مصلحة المواطن على رأس الأولويات. وكما يقول الحمادين: "الرقابة ليست عقوبة، بل حماية للقرار".