الثلاثاء 10 يونيو 2025 ص
في وقت تُعيد التطورات المتسارعة في الجغرافيا السياسية والتكنولوجيا تشكيل محركات النمو الاقتصادي العالمي، يُظهر التفكير الريادي أهمية بالغة وقوة دافعة للتغيير، تستند إليها مراكز جديدة في نهضتها الاقتصادية وجهودها لإرساء اقتصادات الجيل القادم.
في مقدمة تلك المراكز، تبرز منطقة الخليج بفضل موقعها الاستراتيجي، وتركيبتها السكانية الشابة، وسياساتها الداعمة للابتكار، والتي تتمتع بإمكانات جيدة لهذه الحقبة الجديدة والواعدة، وفق تقرير صدر هذا الشهر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.
تُشكل ريادة الأعمال في دول الخليج أساس رؤيتها الاقتصادية الطموحة للتنويع والتحول الرقمي والنمو المستدام. وقد أورد التقرير توجهات خمسة لم تبدأ فقط في تغيير ملامح الصناعات القائمة على الابتكار في دول المنطقة، بل قال إنها تُقدم رؤى ثاقبة عن الاتجاه المستقبلي للاقتصاد العالمي.
يعد تعزيز التعاون التجاري مع الشركاء الموثوقين، من أبرز التوجهات التحوّلية في دول الخليج التي تبدي استعداداً للاستفادة من شراكاتها الاستراتيجية وعلاقاتها الاقتصادية القائمة، نظراً لموقعها الجغرافي المركزي، وبنيتها التحتية، وعاملي الاستقرار والحياد.
ويعد استمرار حالة عدم اليقين بشأن مستقبل أنماط التجارة العالمية مؤشراً على وجود إمكانات أكبر لهذا التوجه، الذي فتح بالفعل آفاقاً جديدة للاستثمار الأجنبي المباشر في قطاعات متنوعة في دول المنطقة، وفق تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي.
على سبيل المثال، اختارت شركة «موندليز» (Mondelēz) المصنعة للعديد من الوجبات الخفيفة الشهيرة، البحرين لتكون موقعاً لـ«مصنع المستقبل» الخاص بالشركة، ليشكل مركزاً للصادرات إلى بقية دول الخليج والشرق الأوسط وإفريقيا.
في تطورات أخرى لافتة، أنشأت شركة «لينوفو» (Lenovo) الصينية مصنعاً لها في الرياض، في حين أعلنت شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة «أوبن إي آي» (OpenAI) و«أوراكل» (Oracle) و«إنفيديا» (Nvidia) عن خططها لإنشاء مركز حوسبة ضخم في أبوظبي بالتعاون مع شريك محلي.
بدأت دول الخليج في تبني التقنيات الناشئة بشكل استباقي، مستفيدة من إمكانات ثورة الذكاء الاصطناعي في تعزيز ريادة الأعمال.
بحسب المنتدى الاقتصادي العالمي، يمكن للسياسات الحكومية وديناميكية القطاع الخاص أن تعملا جنباً إلى جنب لدعم هذا التوجه، كما يتضح من الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي في السعودية، والتي حددت هدفاً لإنشاء أكثر من 300 شركة ناشئة تستخدم الذكاء الاصطناعي.
من جهة أخرى، يُعد التعليم والتدريب محوريين في هذا التحول، لذا جعلت الإمارات الذكاء الاصطناعي مادة إلزامية في المدارس الحكومية، بينما تحصد البحرين ثمار الاستثمار المُبكر في التركيز على العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
وفي العام الماضي، استضافت السعودية القمة العالمية للذكاء الاصطناعي والاجتماع السنوي لمبادرة مستقبل الاستثمار، في مثال واضح على الأهمية المُتنامية للمنطقة في الاتجاهات العالمية الناشئة الخاصة بالتكنولوجيا المتطورة، وفق ما أشار إليه تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي.
تُعدّ التكنولوجيا الخضراء ثالث أبرز التوجهات التي تُعزز ريادة الأعمال والاستدامة والمرونة في دول الخليج، والتي تستثمر 100 مليار دولار في الطاقة المتجددة، بهدف تحقيق خفض في الانبعاثات بنسبة 20% بحلول عام 2030. أتى ذلك بدفع من إدراك الحاجة إلى التخفيف من آثار تغير المناخ، والفرص التجارية المرتبطة بالتقنيات الخضراء.
يُسلط تطوير الإمارات لمفاعل نووي من الجيل التالي الضوء على كيفية تطور قطاعات الطاقة التقليدية، مع تزايد دور الذكاء الاصطناعي في تحسين الأداء. هذا إلى جانب تمتع المنطقة بدور قيادي في مجال الهيدروجين الأخضر والأزرق، بفضل مواردها من الطاقة الشمسية والغاز الطبيعي.
وتتجاوز التكنولوجيا الخضراء نطاق الطاقة لتشمل الزراعة، حيث تُسهم الابتكارات المطبقة في المنطقة في ضمان تخفيف الضغط على الأراضي والمياه.
تعد دول الخليج في صميم توجهات الرعاية الصحية الذكية التي تشمل التشخيص المدعوم بالذكاء الاصطناعي، والأتمتة، والرعاية الصحية عن بُعد، وعلم الجينوم. وقد برزت البحرين كأول دولة في المنطقة تستخدم الروبوتات في خدمات التمريض كجزء من استجابتها لجائحة كوفيد-19. وقد استمر التزام المملكة بالابتكار في مجال الرعاية الصحية من خلال التركيز على الطب الرقمي والذكاء الاصطناعي.
كما تُحرز الإمارات تقدماً ملحوظاً في هذا القطاع. فقد أعلنت مجموعة «جي 42» (G42)، ومقرها أبوظبي، عن تشكيل فريق عمل بالشراكة مع عيادة كليفلاند، لتسريع المبادرات التي تُعطي الأولوية لاعتماد الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية.
في الوقت نفسه، تُعدّ السعودية رائدة في علاجات جديدة للسرطان تتضمن تعديل خلايا المريض وراثياً، بالإضافة إلى الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتصميم نظام جديد للكشف المبكر عن مرض السكري.
تمتد ريادة منطقة الخليج إلى إعادة ابتكار القطاع المالي من خلال التكنولوجيا، مع الإقبال الشعبي الكبير على الحلول المبتكرة واللوائح التنظيمية الداعمة.
يُعد سوق أبوظبي العالمي مركزاً مالياً رائداً، يُعزز ابتكارات التكنولوجيا المالية في المنطقة من خلال مجموعة من الشراكات. كما يستضيف مركز قطر المالي شركات ناشئة محلية في مجال التكنولوجيا المالية، والتي بدورها تعزز ريادة الأعمال من خلال تسهيل حصول الشركات الصغيرة والمتوسطة على التمويل.
أما البحرين فقد رسّخت مكانتها كمركز رائد للتكنولوجيا المالية، بفضل سلسلة من المبادرات الحكومية الأولى في المنطقة في مجال قواعد الخدمات المصرفية المفتوحة، واللوائح الداعمة للعملات المشفرة. وقد كانت أول دولة في المنطقة تمنح ترخيصاً لشركة «بينانس»، مُزوّد خدمات الأصول المشفرة. وفي عام 2024، دخلت crypto.com في شراكة مع «ماستركارد» لإطلاق بطاقة مسبقة الدفع في البحرين، لتسهيل إنفاق الأصول المشفرة عالمياً.
وتحظى ابتكارات التكنولوجيا المالية بقبول واسع في مختلف القطاعات الاقتصادية، كما يتضح من تزايد قبول مطوري العقارات الفاخرة في دبي الدفع بالعملات المشفرة.
وفق هذه التوجهات، تتبنى دول الخليج تقنيات تُحدث نقلة نوعية في الاقتصاد. ويرى المنتدى الاقتصادي العالمي، أن نجاح دول المنطقة في هذه المجالات يبرز كيف أن التعاون الوثيق القائم بالفعل بين الحكومات والقطاع الخاص، مفتاح للحفاظ على الزخم وإطلاق العنان لمزيد من التقدم.
