مع تزايد تأثير الأحداث العالمية على سوق النفط، وما يصحبها من صدمات في الأسعار، إلى جانب التوجه العالمي نحو الطاقة المتجددة، أصبح التنويع الاقتصادي أولوية قصوى في منطقة الخليج محدثاً التزاماً بجذب الاستثمار وتحقيق النمو المتواصل في القطاع غير النفطي.
البحرين وجدت نفسها معنية بهذا التحول مبكراً، في ظل ما لديها من موارد طاقة متواضعة مقارنة بباقي جيرانها، فكانت أول دولة خليجية تسعى بجدية لتنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط.
بدأت في إرساء أسس صناعة الألمنيوم أواخر الستينيات، لتصنع لنفسها في السبعينيات والثمانينيات مكانة كمركز مالي إقليمي رئيس. واليوم، يُمثل القطاع غير النفطي نحو 85% من ناتجها المحلي الإجمالي، بحسب أرقام وزارة المالية والاقتصاد في البحرين.
غير أن هذه الرحلة الطويلة، أصبحت أكثر صعوبة الآن، في وقت زاد حماس الجوار للتنويع الاقتصادي وجذب الاستثمار الأجنبي، ما خلق بيئة عالية التنافسية في المنطقة.
في أواخر ستينيات القرن الماضي، أطلقت البحرين استراتيجيتها الصناعية، لتبدأ باقي دول الخليج رفع درجة مؤشر التنوع الاقتصادي لديها خلال العقدين الأولين من القرن الـ21، وفق تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي.
من أهم ركائز هذا التحول قطاعات مثل الخدمات المالية، والتكنولوجيا، والتصنيع، والسياحة، إلى جانب البرامج المصممة لجذب الاستثمار والاحتفاظ بالكفاءات.
تعد البحرين حالياً من أكثر دول الخليج انفتاحاً اقتصادياً، فالبلاد عبارة عن منطقة حرة ضخمة، مُكمّلة بمناطق صناعية توفر بنية تحتية عالية الجودة، وحوافز إضافية، وسهولة الوصول إلى الموانئ. من أبرزها منطقة البحرين اللوجستية، وقرية الشحن السريع في مطار البحرين الدولي، ومنطقة البحرين العالمية للاستثمار.
علاوة على ذلك، تتميز البلاد بعروض ضريبية جذابة، ورسوم جمركية منخفضة، وملكية أجنبية كاملة في معظم الأنشطة التجارية.
في حين تطبق السعودية ضريبة على الشركات بنسبة 20%، والإمارات بنسبة 9%، وقطر 10%، قاومت البحرين هذا التوجه الإقليمي، وحافظت باستمرار على هيكل ضريبي فريد: لا ضريبة على الشركات، أو على الدخل الشخصي.
كانت سياسات البحرين الضريبية حجر الزاوية في نهج التنويع، إذ صُممت لجعل البلاد وجهة جاذبة للأعمال التجارية الدولية. ولتعزيز بيئة الأعمال أكثر، أطلقت البحرين برنامج «الرخصة الذهبية» الخاص بمشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر واسعة النطاق، الذي اجتذب استثمارات بقيمة 2.4 مليار دولار. ومن المتوقع أن يوفر 3 آلاف فرصة عمل، وفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي.
من بين أبرز المستفيدين من البرنامج، شركة سويسرية تدعى «إنترلينك» (Interlink Metals & Chemicals)، تخطط لبناء مصنع تيتانيوم بقيمة 200 مليون دولار ينتج 4 آلاف طن من المعدن سنوياً كمرحلة أولى، وهو ما يُمثل دفعة قوية للتصنيع في البحرين.
في ما يخص تبسيط إجراءات الأعمال، حققت البحرين تقدماً ملحوظاً، إذ ساهمت الإصلاحات الأخيرة في تذليل العقبات البيروقراطية، واختصار المهل الزمنية لتأسيس الأعمال، وتعزيز الشفافية.
ويسمح الإطار التنظيمي الآن بالملكية الأجنبية الكاملة في معظم القطاعات.
هذا الانفتاح على الاستثمار الأجنبي يُميّز البحرين عن بعض البدائل الإقليمية، ويتماشى واستراتيجيتها الأوسع لجذب الأعمال الدولية.
مع ذلك كله، تواجه الجزيرة ذات المليون ونصف المليون نسمة، تحديات المنافسة من جيرانها الأكبر حجماً. فمع توجه الجميع في المنطقة بعيداً عن النفط والغاز قدر المستطاع، بدأت الأضواء تُسرق في بعض القطاعات.
على سبيل المثال، تضاءل دور البحرين كمركز إقليمي للنقل الجوي في السنوات الأخيرة. وبعد أن كانت طيران الخليج - الناقل الوطني للبحرين - أكبر شركة طيران في المنطقة، خفت نجمها أمام شركات مثل طيران الإمارات والاتحاد للطيران والخطوط الجوية القطرية.
سعي السعودية نحو تعزيز السياحة الداخلية وأنشطة الترفيه، ألقى بثقله أيضاً على القطاع في البحرين التي كانت وجهة رئيسة.
كما بدأت البلاد في التخلف عن الركب في سباق ريادة المراكز المالية في الخليج، فهي الآن تحتل المرتبة الـ75 فقط بين أكثر المراكز المالية تنافسية على مستوى العالم في أحدث إصدار من مؤشر المراكز المالية العالمية) مارس 2025، متخلفة بفارق كبير عن دبي التي تحتل المركز الـ12.
كانت تبعات ذلك، أن نقلت جميع البنوك الدولية تقريباً مقارها الرئيسة في الشرق الأوسط من البحرين إلى دبي. ويُعد «بنك بي إن بي باريبا» (BNP Paribas) من بين آخر البنوك التي احتفظت بقاعدتها الإقليمية في البلاد، لكنه يخطط لتقليص حجم مكتبه المحلي في المستقبل القريب وإدارة عملياته في الشرق الأوسط من باريس، وفق ما أكده تقرير لمجلة fDi Intelligence المتخصصة في الاستثمار الأجنبي المباشر.
على الرغم من المنافسة الشرسة التي تواجهها البحرين من جيرانها الأكبر حجماً والأكثر بريقاً، إلا أنها تمتلك أوراقاً رابحة في جهودها للحفاظ على مكانتها كلاعب رئيس في المنطقة.
فبينما يبقى القطاع المالي واعداً، تواصل البحرين الرهان على الحوافز والبيروقراطية سريعة التطور كمفتاح لجذب الاستثمار.
ورغم صغر حجمها، يبدو أن البحرين لا تزال في وضع جيد لجذب المستثمرين، إذ تشير تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر المحققة خلال العامين الماضيين، إلى استمرار ثقة المستثمرين في الاقتصاد البحريني.
حققت البحرين رقماً قياسياً في الاستثمار الأجنبي المباشر في عام 2023، بلغ 6.8 مليار دولار، وفقاً لتقرير الاستثمار العالمي (WIR 2024) الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، مسجلاً زيادة هائلة بلغت 148% مقارنة بالعام الذي سبق.
وقد ساهم ذلك في نمو إجمالي أرصدة الاستثمار الأجنبي المباشر في البحرين إلى 43 مليار دولار.
ميزة أخرى تتمتع بها البحرين في ظل التوترات التجارية المتأزمة، تتمثل في اتفاقية التجارة الحرة مع واشنطن التي دخلت حيز التنفيذ عام 2006، إذ من شأنها أن تمكن البحرين من جذب رؤوس الأموال من الدول التي ترغب في تجاوز الرسوم الأميركية العالية.
لا شك أن فرص الاستثمار في البحرين لا تضاهي حجم الفرص المتاحة على الطرف الآخر من جسر الملك فهد، حيث تُحدث «رؤية 2030» نقلة نوعية في الاقتصاد. لكنها بدلاً من مقاومة التيار، اختارت تبني التكامل الإقليمي.
ويعد الاندماج المقترح بين شركة «ألمنيوم البحرين» (ألبا) - التي تُدير أكبر عمليات صهر في العالم خارج الصين - ونشاط الألمنيوم التابع لشركة «معادن» السعودية، مثالاً على هذا التكامل.
في حديثه خلال منتدى «بوابة الخليج للاستثمار» في نوفمبر الماضي، صرّح خالد الرميحي، رئيس مجلس إدارة «ألبا»، بأن الاندماج - الذي يتوقع اكتماله بحلول منتصف عام 2025 - سيخلق «القوة الدافعة» التي تُمكّن الكيان الناشئ عن الاندماج من المنافسة دولياً، مشيراً إلى أنه سيصبح سابع أكبر مُصنّع للألمنيوم في العالم.