بين سعيها لعقد اتفاقات تجارية مع كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومغازلتها المتواصلة للصين، تجد بريطانيا نفسها في موقف دبلوماسي محفوف بالمخاطر، يعكس طبيعة النظام العالمي الجديد الذي يزداد غموضاً منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الحكم.
فمنذ أن أشعلت الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب شرارة حرب تجارية عالمية، شرعت بريطانيا – التي لطالما اتسم اقتصادها بالانفتاح والاعتماد على التجارة الدولية – في إبرام عدد من الاتفاقات التجارية، بينها اتفاق للتجارة الحرة مع الهند، وتخفيف للرسوم الجمركية من جانب واشنطن، بالإضافة إلى تقارب مع الاتحاد الأوروبي في مجالات الدفاع والطاقة والزراعة.
لكن هذه الاستراتيجية، التي تهدف إلى تنويع الشراكات التجارية، وضعت بريطانيا في موقع دقيق، وسط ضغوط متزايدة من القوى الاقتصادية الثلاث الكبرى: الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي، وهي أطراف تمثل نحو ثلثي التجارة البريطانية، ويرى محللون أن الفوائد الاقتصادية لهذه التحركات لن تتجلى سريعاً، وربما تأتي متأخرة.
مارتن دونلي، وهو مسؤول سابق رفيع في وزارة التجارة البريطانية، حذر من أن «النجاح في هذا السياق لن يكون سهلاً أو رخيصاً»، مشيراً إلى أن بريطانيا قد تُستبعد من الكتل التجارية الثلاث الكبرى إذا اختارت استراتيجية خاطئة، وفق وكالة رويترز.
في ظل هذا العالم المتشظي، يرى بعض الخبراء أن لندن قبلت بلعب دور «تابع» للولايات المتحدة في مجالات الأمن والتكنولوجيا، مانحة واشنطن نفوذاً في سلاسل التوريد وبعض القطاعات الاستراتيجية، مثل الصلب، وهو ما قد يؤدي إلى إقصاء الصين.
ورغم الضغوط الأميركية لفتح السوق البريطانية أمام مزيد من المنتجات الزراعية، قاومت بريطانيا هذا التوجه، مفضّلة البقاء في موقع يسمح لها بالتقارب مع بروكسل، لا سيما في ظل رغبة الاتحاد الأوروبي في توثيق علاقاته الدفاعية مع لندن.
مع ذلك، تسعى بريطانيا في الوقت ذاته إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الصين، عبر جذب الاستثمارات وتصدير الخدمات المالية للنخب الصينية، مع تجنب تقاسم التكنولوجيا الحساسة التي قد تثير غضب واشنطن.
ماركو فورجيوني، مدير «المعهد المعتمد للتصدير والتجارة الدولية»، أشار إلى أن بعض الشركات البريطانية – وعددها يناهز 80 ألفاً – بدأت بالفعل في إعادة هيكلة سلاسل التوريد لحماية القطاعات الحساسة، مثل الدفاع والذكاء الاصطناعي.
أوضح أن بريطانيا بحاجة إلى استراتيجية متوازنة تعمل مع جميع الأسواق الكبرى، مع التحذير من أن «الشركاء لن يقبلوا إلا باستراتيجية تُظهر تماسكاً، لا انتهازية».
فيما يقول أحد مسؤولي التجارة، ممن عملوا في كل من لندن وبروكسل، إن بريطانيا حصلت من ترامب على تنازلات لم تكن أوروبا لتحصل عليها، ولكن مقابل قبول وضعية التابع – وهو أمر غير مقبول بالنسبة للاتحاد الأوروبي.
هذا المسؤول، الذي تحدث بشرط عدم كشف هويته، أكد أن التحدي الأكبر أمام بريطانيا هو الحفاظ على ثقة الشركاء كافة.
أصبحت بريطانيا دولة تجارية مستقلة في عام 2020، عقب مفاوضات شاقة استمرت أربع سنوات بعد التصويت على مغادرة الاتحاد الأوروبي، كان أنصار «بريكست» يرون أن الخروج سيفتح آفاقاً لإبرام اتفاقات مع اقتصادات آسيوية سريعة النمو، كما توقع بعضهم أن تدعم العلاقات الأمنية القوية مع واشنطن تجارة السلع المصنعة والغذائية، وهي وعود لم تتحقق حتى الآن.
تُظهر تقديرات الهيئة الرسمية لمراقبة الميزانية البريطانية أن تراجع التجارة بعد «بريكست» سيؤدي إلى انخفاض محتمل في إنتاجية الاقتصاد بنسبة 4% خلال 15 عاماً، مقارنة بما لو بقيت المملكة في الاتحاد الأوروبي.
في ظل اقتصاد متباطئ وديون عامة تقارب 2.8 تريليون جنيه إسترليني (نحو 3.7 تريليون دولار)، تبحث لندن عن شراكات جديدة لتحقيق النمو وضمان أمنها في عالم يتزايد اضطرابه.
يقول بول دريكسلر، عضو مجلس إدارة وزارة الأعمال والتجارة البريطانية، إن الاتفاقات الأخيرة تساهم في تعزيز الثقة، مضيفاً: «نحن في لحظة محورية جيوسياسياً واقتصادياً، ويجب أن نتحرك لإعادة تنشيط التجارة».
في خطوة لافتة، أصبحت بريطانيا أول دولة تحصل على خفض للتعريفات الجمركية الأميركية من إدارة ترامب، عبر اتفاق محدود يشمل السيارات والصلب، إلا أن الرسوم الأساسية – مثل الضريبة الأميركية البالغة 10% – لا تزال قائمة، رغم التوازن في التجارة الثنائية بين البلدين.
ترى يانكا أورتل، مديرة برنامج آسيا في «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أن هذا الاتفاق أثار على الأرجح امتعاض الاتحاد الأوروبي واليابان ودول أخرى، كانت تطمح إلى موقف موحد تجاه ترامب، كما قد يُعقد هذا الاتفاق العلاقات مع بكين، خصوصاً بسبب البنود الأمنية التي تتيح للولايات المتحدة استبعاد الصين من قطاع الصلب البريطاني.
يضع هذا الوضع حكومة كير ستارمر – التي انتُخبت في يوليو الماضي – أمام تحدي تحسين العلاقات مع الصين، بعد سنوات من التوتر في ظل الحكومات المحافظة السابقة، على خلفية قضايا حقوق الإنسان، وهونغ كونغ، والاستثمارات، والأمن.
من جهتها، أكدت السفارة الصينية في لندن أن الاتفاقات بين الدول «يجب ألا تستهدف دولاً أخرى»، مشيرة إلى أن بكين «مستعدة للرد إذا لزم الأمر»، وخلصت أورتل إلى أن بريطانيا قد تجد نفسها في موقف حساس إذا قررت الصين الرد بقوة «لتوجيه رسالة ردع لدول أخرى»، مشيرة إلى أن «المملكة المتحدة باتت بمنزلة حقل تجارب، وربما لا يكون ذلك موضعاً مريحاً».