وأبدت تركيا مرارا منذ اندلاع الأزمة رغبتها واستعدادها للعب دور مركز الطاقة الإقليمي، وهو ما لقي تجاوبا من روسيا، حيث أكد نائب رئيس مجلس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، أن روسيا تتطلع للتوصل إلى اتفاق قريب مع أنقرة بشأن إنشاء مركز دولي للغاز الطبيعي في تركيا، مؤكدا أن روسيا تأمل من هذه الخطوة أن تصبح تركيا طريقا رئيسيا لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، خاصة بعد تدهور علاقات موسكو مع شركائها الأوروبيين الذين لا يستطيعون حتى الآن الفكاك من الاعتماد بشكل أساسي على الغاز الروسي، الأقرب والأرخص.
من جانبه قال وزير الطاقة التركي، ألب أرسلان بيرقدار، إن بلاده قادرة على شراء نحو 100 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا، تستهلك منها ما نسبته 60% محليا، والنسبة الفائضة توجّه للتصدير لجيرانها، لافتا إلى أن تركيا تعتزم تصدير هذا الفائض من خلال المركز الدولي للغاز المزمع إنشاؤه في البلاد.
ووفقا لتقديرات هيئة تنظيم سوق الطاقة التركية فإنه من المتوقع أن تستهلك تركيا حوالي 60 مليارا متر مكعب من الغاز الطبيعي خلال العام الجاري.
وفي طريق تحولها لتصبح مركزا دوليا للطاقة، خاصة الغاز الطبيعي، فإن تركيا أبرمت عقودا طويلة الأجل لاستيراد الغاز من دول عدة منها روسيا وإيران وأذربيجان والجزائر، حيث تمتلك قدرة يومية تقدر بحوالي 20.2 مليون متر مكعب من الغاز من أذربيجان، و29.4 مليون متر مكعب من إيران، و48.4 مليون متر مكعب من خط أنابيب بلوستريم من روسيا.
وخلال الأسبوع الحالي، اتفقت تركيا مع الجزائر على تمديد اتفاقية استيراد الغاز الطبيعي المسال بين البلدين لمدة 3 سنوات، حيث تشتري أنقرة حوالي 4.4 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال سنويا من الجزائر.
وفي أكتوبر 2022، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عقب اجتماعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أنه وافق على اقتراح بوتين بإنشاء مركز للغاز في تركيا وأوصى بمنطقة تراقيا الشمالية الغربية على الحدود مع بلغاريا واليونان لتنفيذ المشروع، وطلب من وزارة الطاقة والموارد الطبيعية وضع خطة عمل مشتركة لتنفيذ المشروع بالتعاون مع الجانب الروسي على الفور.
ولفت وزير الطاقة التركي، في تصريحات سابقة له، إلى أن إنشاء منصة إلكترونية لتجارة الغاز الطبيعي في تركيا، والذي يعد الخطوة الأولى نحو إقامة مركز إقليمي للغاز، قد يتم خلال العام المقبل 2024. وتسعى تركيا للاستثمار في سعة تخزين جديدة وتتفاوض مع كل من تركمانستان وروسيا للحصول على إمدادات جديدة يمكن أن تتدفق إلى أوروبا من خلال المركز الدولي في تركيا.
وأنجزت أنقرة خطوة لتحقيق هدفها بأن تصبح مركزا إقليميا للطاقة، عندما وافقت رومانيا في ديسمبر الماضي على استيراد شحنات الغاز الطبيعي من أذربيجان عبر تركيا، فيما تحصل بلغاريا حاليا على ثلث إمداداتها السنوية من أذربيجان بموجب عقد طويل الأمد وقد تتحول للحصول على حصتها من منطقة تراقيا التركية، المقر المرتقب لمركز تصدير الغاز.
ويقول الدكتور محمد عادل، أستاذ الاقتصاد والطاقة بجامعة الإسكندرية، في تصريحات لـ "إرم الاقتصادية"، إن الحرب الروسية على أوكرانيا وما أعقبها من عقوبات غربية صارمة على واردات الطاقة الروسية، حفزت تركيا للاستفادة من هذا الوضع وبسط نفوذها اقتصاديا في منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، فيما تستفيد روسيا من المركز الدولي للطاقة في تركيا لتسوق من خلاله وقودها الأحفوري إلى أوروبا.
ولفت إلى أن تركيا تسعى إلى تقليل أسعار الغاز الطبيعي محليا من خلال إقامة المركز الدولي للطاقة على أراضيها، حيث أنها تستهلك سنويا ما يصل إلى نحو 55-60 مليار متر مكعب من الغاز، وهو مستورد بالكامل تقريبا، موضحا أن أنقرة تخطو خطوة جديدة باتجاه توفير إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر المركز المزمع إنشاؤه، في ظل السباق المحتدم على توفير احتياجات القارة العجوز من الغاز الطبيعي، وسط ارتفاع الأسعار، وتعثر شبكات الإمدادات، بفعل تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا.
وأضاف أن تركيا ضخت استثمارات كبيرة في البنية التحتية للطاقة خلال العشر سنوات الماضية، وتبني مرافق لتخزين الغاز الطبيعي، وذلك لتوفير الطاقة اللازمة لاقتصادها المتنامي وللحفاظ على معدلات نموها بالإضافة إلى أن مرافق التخزين ستصبح فيما بعد منطلقا لتصدير الغاز إلى أوروبا.
وقال أستاذ الاقتصاد والطاقة، إن تركيا افتتحت مؤخرا وشغلت خطين دوليين لنقل الغاز من روسيا وأذربيجان وكثفت من عمليات البحث والتنقيب عن الغاز الطبيعي والبترول في مياهها الإقليمية في البحر الأسود وشرق المتوسط، فيما طورت من بنيتها التحتية لمصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح والطاقة الكهرومائية، لافتا إلى أن إستراتيجية الدولة التركية الأخيرة أسفرت عن تنويع مصادر استيراد الغاز والنفط من الخارج وعدم الارتهان لدول بعينها.
وأوضح عادل أن كل هذه المشاريع لا تهدف فقط لتحقيق أمن الطاقة لتركيا وإنما لتصبح من خلالها مركزا دوليا لتوزيع الطاقة بما يتيح لها أن تصبح من المتحكمين في الطاقة وخاصة الغاز دوليا، الأمر الذي سيعزز مكانتها الجيوسياسية والاقتصادية.
ورغم سعي تركيا لسرعة إنجاز مشروع مركز توزيع الغاز الطبيعي، وهو الأمر الذي تشاركها فيه روسيا، إلا أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الخطوات والعمل، حيث يلفت الخبراء إلى أن هذا المركز بحاجة إلى مشاركة منتجين آخرين للغاز، بجانب روسيا، مثل إيران أو أذربيجان أو تركمانستان، ليصبح عمليا ومجديا اقتصاديا.
كما يتطلب إنجاز المشروع مزيدا من الدراسات والاتفاقيات القانونية والاستثمارية بين الروس والأتراك، للاتفاق على الجوانب السياسية والاقتصادية والاستثمارية للمشروع، وأخيرا فإن المشروع في حاجة لضمان حد أدنى من العملاء المستعدين لتوقيع اتفاقيات لتلقي إمدادات الغاز من مركز التخزين التركي، وهو أمر يتطلب أيضا التوصل إلى اتفاقيات استثمارية، وضوء أخضر سياسي من حكومات الدول المستوردة.