تتسارع تأثيرات الذكاء الاصطناعي على سوق العمل عالمياً، حيث بدأت ملامح التحول في الوظائف تظهر بشكل متزايد، مع قدرة هذا التطور التكنولوجي على أداء مهام بشرية بدرجات متفاوتة من التعقيد، ما يثير تساؤلات جوهرية حول مصير ملايين الوظائف التقليدية، لا سيما في دول المنطقة العربية والشرق الأوسط التي لم تحدد بعد موقعها بوضوح من هذا التحول.
خبراء لـ«إرم بزنس» أشاروا إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يهدد الوظائف فقط، بل يعيد تعريفها، ويخلق أنماطا جديدة من فرص العمل تتطلب مهارات مختلفة تماما عن تلك السائدة حاليا. ويعتبر قطاع البرمجة وتحليل البيانات، وأمن المعلومات، وتطوير النماذج الذكية، من أبرز المجالات التي تشهد طلباً متزايداً في ظل توسع استخدامات الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات الاقتصادية.
عميد كلية تكنولوجيا المعلومات في جامعة اليرموك قاسم الردايدة أكد لـ«إرم بزنس» أن التكنولوجيا مع مرور الزمن ستلغي وظائف كثيرة، لكنها في المقابل ستولّد وظائف جديدة، لافتاً إلى أن هذا التغيير يكون أكثر وضوحاً في الدول التي تستخدم التكنولوجيا بشكل أكبر وأكثر فاعلية.
وأشار إلى أن قطاعات عديدة ستتأثر، مثل النقل مع السيارات ذاتية القيادة، ما قد يؤدي إلى تقليص الحاجة إلى السائقين، إضافة إلى قطاع الطب، ولا سيما في مجال الأشعة، حيث باتت الأنظمة الذكية تقوم بتحليل الصور الطبية بكفاءة عالية، هذا إلى جانب وظائف ومهن عدة تقليدية ستتأثر فعليا بهذه التقنية الحديثة.
وشدد الردايدة على ضرورة استعداد الدول العربية لمواجهة هذا التحول عبر دراسات علمية وخطط واضحة لتوليد وظائف جديدة تتماشى مع التكنولوجيا، معتبرا أن «هذا تطور طبيعي، وهذه سنة الحياة، ومن لا يواكب الركب سيتأخر كثيرا».
لم تعد تقنيات الذكاء الاصطناعي حبيسة المختبرات أو الاقتصادات الكبرى. ففي دول مثل الإمارات والسعودية وقطر، انطلقت استراتيجيات وطنية تستهدف دمج الذكاء الاصطناعي في مفاصل الاقتصاد. واعتمدت بعض المؤسسات المالية والإعلامية أدوات ذكية لأداء مهام كانت حصرية للبشر، مثل خدمة العملاء وإنتاج المحتوى ومراقبة البيانات.
وفي الأردن ومصر، بدأت بوادر استخدام الأنظمة الذكية في التعليم والخدمات الحكومية، رغم تفاوت مستوى التطبيق بين القطاعين العام والخاص.
ويؤكد حسام الحوراني، مدير التعليم والذكاء الاصطناعي في شركة «أورانج»، أن الذكاء الاصطناعي قد يسهم بما يصل إلى أكثر من 500 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي للشرق الأوسط بحلول عام 2030، مع استفادة واضحة لدول مثل السعودية والإمارات بفضل سياساتها الاستباقية.
ويشير الحوراني إلى أن نحو 30% من الوظائف الحالية قد تختفي خلال العقد المقبل، مؤكدا أن ما بين 20% إلى 45% من الوظائف في العالم العربي معرضة لخطر الأتمتة. ويرى أن هذا التحول قد يفاقم معدلات البطالة، ويزيد الفجوة الطبقية، ما لم تتم مواجهته من خلال خطط تدريب وتأهيل شاملة.
ويشدد الحوراني على أن التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي يفرضان على المؤسسات التعليمية والقطاعات الاقتصادية أن تعيد النظر في مهارات المستقبل المطلوبة. ويؤكد أن التفكير النقدي، والبرمجة، والقدرة على التعامل مع البيانات، باتت ضرورات لا يمكن تجاهلها، مشيراً إلى أن من يتأخر في اكتساب هذه المهارات قد يجد نفسه خارج سوق العمل.
وبحسب خبراء في القطاع، فإن بعض الوظائف التقليدية تواجه خطر الزوال مع تنامي الاعتماد على الذكاء الاصطناعي. ومن أبرزها الوظائف المتعلقة بمراكز الاتصال وخدمة العملاء؛ إذ بدأت الشركات تعتمد على أنظمة دردشة ذكية للرد على الاستفسارات وتنفيذ المهام. كما تشمل المهن المهددة المحاسبين الذين يقومون بمهام روتينية يمكن أتمتتها، والمترجمين في اللغات الشائعة الذين أصبح بإمكان البرمجيات أداء مهامهم بدقة متزايدة، فضلا عن محرري المحتوى الإخباري القصير الذي باتت الخوارزميات قادرة على إنتاجه خلال ثوان.
في مقابل الوظائف التي تختفي، تظهر مجالات عمل جديدة كليا، توفر فرصا للأفراد الذين يمتلكون المهارات المطلوبة لهذا العصر الرقمي. من بين هذه الوظائف مطورو الأنظمة الذكية الذين يقومون ببناء النماذج والخوارزميات، ومحللو البيانات الضخمة القادرون على استخلاص رؤى استراتيجية من كميات هائلة من المعلومات، إضافة إلى مدربي الروبوتات اللغوية الذين يساعدون الآلات على التفاعل بطرق إنسانية أكثر، ومختصي أخلاقيات الذكاء الاصطناعي الذين يضمنون عدم تجاوز الأنظمة للضوابط القانونية والإنسانية، إلى جانب خبراء الأمن السيبراني الذين بات دورهم محوريا في حماية البنية التحتية الرقمية.
رغم التحديات، أطلقت دول عربية مبادرات واعدة لمواكبة هذا التحول. ففي الإمارات، تم إنشاء وزارة للذكاء الاصطناعي، كما أطلقت مبادرة لتدريب مليون شاب على البرمجة. أما السعودية، فقد تبنت «الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي»، بينما بدأ الأردن بإدخال التفكير الحاسوبي في المناهج المدرسية، وأنشأت قطر مراكز بحثية متقدمة بالشراكة مع جامعات دولية.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية عابرة، بل أداة استراتيجية قد تعيد تشكيل سوق العمل العربي من جذوره. وبينما يحمل فرصا هائلة للتنمية، إلا أنه يتطلب استعدادا فعليا في التعليم والتشريع والسياسات الاجتماعية.
ويحذر الخبراء من أن الدول التي لا تتهيأ لهذا التحول قد تواجه معدلات بطالة مرتفعة وفجوة رقمية متزايدة؛ ما يجعل من الضروري الإسراع في بناء قدرات رقمية وطنية تواكب هذا العصر الجديد.