بعد تحذيرات المصرف الليبي المركزي من «انهيار اقتصادي» وتحركاته لتفادي ذلك، اندلعت توترات أمنية في العاصمة طرابلس التي تحتضن المقر الرئيس للمصرف ومنشآت نفطية ومقر حكومة الغرب، في ظل انقسام ومخاوف منصات دولية من تأثيرات تطال إيرادات البلاد.
وفي تصريحات لـ«إرم بزنس»، رأى مسؤول ليبي رقابي، أن «التوترات ستعرّض الاقتصاد لمزيد من الضغوط التي تعمق أزمته الراهنة ولا سيما مع توجيه الموارد نحو ترتيبات أمنية بدلا من التنمية والخدمات؛ ما يفاقم تدهور الوضع المعيشي ويضعف قيمة الدينار».
ويختلف مع هذا الطرح، مستشار سابق لوزارة النفط وخبير نفطي بالبلد العربي الذي تأتي 98% من إيرادات الدولة من إنتاج وتصدير المشتقات النفطية، مؤكداً أنه ليس هناك في المدى الصغير أو المتوسط ما يمس الاقتصاد، مرجعاً ذلك في تصريح لـ«إرم بزنس»، إلى أسباب منها عدم توقف ضخ النفط أو تصديره.
وأفادت المؤسسة الوطنية للنفط بليبيا، في بيان 20 مايو الجاري، بارتفاع إنتاج النفط الخام في ليبيا بشكل طفيف، مسجلاً مليوناً و380 ألف برميل مقارنة بمليون و379 ألف برميل المسجل في اليوم السابق، متجاوزا تحذير موقع «أويل برايس» الأميركي في الـ17 من الشهر الجاري من أن الاشتباكات تضع ليبيا عند مفترق طرق، وتهدد تعافي صناعة النفط والغاز الطبيعي، مع طرح ليبيا لـ22 قطعة برية وبحرية جديدة لأنشطة التنقيب والاستكشاف الدولية ومساعيها لرفع إنتاج النفط إلى مليوني برميل يومياً بحلول العام 2027.
وتشهد العاصمة طرابلس، منذ الـ12 من مايو الجاري توترات أمنية أدت لاندلاع اشتباكات بالأسلحة الثقلية بين قوات تتبع الحكومة بالغرب وتشكيلات مسلحة، تلاها احتجاجات رافضة لعدم الاستقرار بالبلاد وتطالب برحيل الحكومة، وسط أنباء عن استقالات لوزراء منهم وزير الاقتصاد محمد الحويج، يقابلها نفي حكومي وتقارير صحيفة تتحدث عن تسجيل ارتفاع في أسعار بعض السلع الأساسية، ببعض المناطق جراء الأحداث.
فيما قرر مجلس النواب الليبي، بحسب بيان عقب جلسة ببنغازي، الثلاثاء، «استدعاء عدد من المرشحين لمنصب رئاسة الحكومة في جلسة الاثنين المقبل وذلك بعد مناقشة أوضاع طرابلس ومطالب المتظاهرين بتشكيل حكومة موحدة»، وسط دعوة أحزاب سياسية بالبلاد لاستمرار التظاهرات لتأكيد المطالب ذاتها كان أحدثها ما سمّوه «جمعة الحسم».
وكان المصرف المركزي قرر في بيان يوم الـ6 من أبريل الماضي «تخفيض قيمة الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية 13.3%»، ليصبح 5.5677 دينار مقابل الدولار، في أول خفض رسمي منذ عام 2020، مرجعاً ذلك إلى إنفاق حكومي تجاوز 224 مليار دينار في 2024.
ووقتها أكد ناجي عيسى محافظ البنك المركزي الليبي المسؤول عن إيرادات النفط المصدر الرئيس للعملة الأجنبية بالبلاد ودفع رواتب موظفي الدولة، في لقاءات مع أعضاء مجلس النواب الليبي، ورئيسي الحكومتين عبدالحميد الدبيبة وأسامة حماد، أن «الوضع الاقتصادي يتطلب قرارات جريئة، وتعاوناً وطنياً واسعاً، لتفادي سيناريوهات الانهيار الاقتصادي».
وبلغ إجمالي مصروفات النقد الأجنبي في الربع الأول من العام الجاري نحو 9.8 مليار دولار، بينما الإيرادات النفطية والإتاوات الموردة للمصرف المركزي (تعاملات النقد الأجنبي لدى المصرف) بلغت نحو 5.2 مليار دولار حتى يوم الـ27 من مارس الماضي بعجز بلغ نحو 4.6 مليار دولار خلال ثلاثة أشهر فقط (الربع الأول)، فيما سيبلغ الدين العام الليبي 270 مليار دينار وسط توقعات بأن يتجاوز 330 مليار دينار بحلول نهاية العام، بحسب بيان سابق للمصرف.
في حديث لـ«إرم بزنس»، قال وزير الدولة لشؤون الاقتصاد السابق ورئيس مجلس المنافسة ومنع الاحتكار الليبي الحالي، الدكتور سلامة الغويل إنه في «ظل التوترات المتجددة التي تشهدها العاصمة طرابلس، لا شك أن الاقتصاد الليبي يتعرض لمزيد من الضغوط التي تعمّق أزمته الراهنة».
وهذه التوترات بحسب الغويل «تُضعف ثقة المواطن والمستثمر في استقرار البيئة الاقتصادية، وتعطّل عمل المؤسسات المالية والنقدية، وتؤدي إلى توجيه موارد الدولة نحو الترتيبات الأمنية بدلًا من التنمية والخدمات؛ ما يُفاقم من تدهور الوضع المعيشي، ويزيد اختلال التوازن النقدي وضعف قيمة الدينار الليبي».
وبرأي المسؤول الرقابي في ليبيا فإن «الأزمة الحالية ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة تراكمات لسياسات ارتجالية، وغياب الرؤية الاقتصادية المستقرة، وتوزيع مشوّه للثروة والفرص. ومع استمرار الازدواجية الإدارية والارتباك في القرار السياسي والاقتصادي، تتراجع فرص الإنقاذ الفوري، ما لم تتحقق حلول واقعية تتجاوز الشعارات إلى الفعل».
الحلول لهذا المشهد الليبي المتأزم اقتصادياً، يراها الغويل «تبدأ بتحصين المؤسسات الاقتصادية السيادية، مثل: المصرف المركزي، والمؤسسة الوطنية للنفط، ومنع تسييسها أو استخدامها في صراعات النفوذ، إلى جانب تفعيل الشفافية المالية وإعادة هيكلة النفقات العامة بما يخدم المواطن مباشرة. كما أن دعم الدينار يحتاج إلى قرارات نقدية مسؤولة تضع مصلحة الناس فوق كل اعتبار، ولا سيما مع تنامي السوق الموازية واتساع الفجوة بين المواطن والدولة».
أما على المدى المتوسط، فيتطلب الأمر والحديث لـ«الغويل» «بناء اقتصاد مستقر يتطلب إعادة توزيع الثروة بعدالة بين مختلف مناطق ليبيا، وتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط، وتفعيل الإنتاج الوطني في الزراعة والصناعة، مع ضرورة تأسيس صندوق سيادي شفاف يحمي عائدات الدولة من العبث السياسي ويضمن استخدامها للتنمية المتوازنة»، مؤكداً أن «ليبيا لن تنهض اقتصادياً إلا بقيادة مسؤولة، تمتلك الشجاعة والوضوح، وتدرك أن الاقتصاد لا يُبنى بالأمن فقط، بل بالثقة، والتوازن، والعقلانية. والمواطن اليوم ينتظر حلولاً لا وعودًا، وواقعًا لا خطاباتٍ.ً
بالمقابل، يختلف مع هذا الطرح المستشار السابق بوزارة النفط والخبير النفطي الدكتور أحمد الغابر، قائلاً في تصريح لـ«إرم بزنس» إن «التوترات في طرابلس لا تحمل في مداها القصير والمتوسط أي تأثير في الاقتصاد الليبي، بقدر كبير أو صغير لأنها خلافات واشتباكات أمنية بين الدولة وجماعات صغيرة والجماعات لن تستطيع هزيمة الدولة».
سبب آخر لصمود الاقتصاد رغم أزماته، وهو بحسب الدكتور أحمد الغابر، «استمرار إنتاج وتصدير النفط وعدم توقفه رغم التوترات وهذا عامل منقذ وإيجابي وتجعل الاقتصاد لا يتأثر خاصة أن ليبيا دولة نفطية ولديها رصيد معقول في المدى القصير ويعتمد على تلك السلعة وتحصل إيرادات مبيعاتها وتشترى احتياجات بلاده من الأسواق العالمية التي تصل عبر السفن للموانئ التي لم تغلق أيضاً».
ويسترجع الأزمات السابقة بالبلاد خاصة المرتبطة بالمصرف المركزي الليبي، قائلا: «هذه الأزمة مثلا أثرت على اقتصاد ليبيا، لأن النفط توقف إنتاجه وتصديره بضغط وقرار من حكومة شرق ليبيا، والآن جماعات لا حجم لها ولا تأثير وكلتا الحكومتين بغرب وشرق البلاد متفقتان على استمرار إنتاج النفط والتصدير للحصول على إيراداته واستيراد ما يلزم».
ولا يعتقد الغابر أن «التظاهرات والتحركات لإيجاد حكومة بديلة في طرابلس قد تؤثر أيضا على الاقتصاد بشكل كبير، خاصة أن ليبيا تحت البند السابع من الأمم المتحدة الذي يلزم إجراءات محددة وحكومة ليست بعيدة عن مشاورات مع بعثة الأمم المتحدة وبالتالي هناك مسار ولن نذهب لفراغ ولن يضر ذلك الاقتصاد أيضاً».
والحل بحسب الغابر، لمواجهة أي توسع في التوترات وتفادي تأثيرات مستقبلية سلبية في الاقتصاد هو إنهاء الانقسام في البلاد الذي يتآكل معه أي تقدم وتطور، مؤكداً أن حال حدوث توافق على حكومة موحدة فإن اقتصاد البلاد سيقفز قفزات كبيرة في سنوات قليلة وغير ذلك فهو تحت ضغوط عديدة ليس من بينها تلك التوترات حال لم تخرج عن الإطار القانوني.