تتعرض بريطانيا من جديد إلى "شتاء الغضب" الذي يتسبب في شلل البلاد، فقد بدأ عمال السكك الحديدية والممرضات وموظفو الهجرة بالمطارات ومعلمي المدارس وشركات البريد وسائقي الحافلات وأساتذة الجامعات وضباط الطرق السريعة وسائقي سيارات الإسعاف إضراباً، لم تشهد بريطانيا مثل كثير من الاضطرابات العمالية منذ سبعينات القرن الماضي، عندما ظل عمال جمع القمامة في منازلهم، ورفض عمال حفر القبور دفن الموتى، ما أدى إلى سوء الظروف بشكل كبير في تلك السنوات، حتى احتاجت البلاد وقتها لقرض إنقاذ من صندوق النقد الدولي، وانتشر الحديث حينها حول تحول بريطانيا إلى "ألمانيا الشرقية وسط العالم الغربي".
مهد ذلك الاضطراب الذي تسبب في شلل البلاد الطريق لإطلاق تاتشر ثورة تغيير حدت من هيمنة الحكومة على الاقتصاد البريطاني على مدى عدة سنوات وأعادت الاقتصاد للتعافي من جديد.
ديفي يونغ، الذي وافته المنية مؤخرًا عن عمر يناهز 90 عامًا، كان أحد قادة تلك الثورة، حيث عمل مستشارًا ومديرًا لحملة تاتشر الانتخابية، وعمل وزيرًا بمجلس الوزراء، وأصبح وقتها مهندس برنامج الخصخصة الذي غير اقتصاد البلاد، وقدمت حياته السياسية دروسًا يمكن الاستفادة منها في علاج الاضطرابات الحالية.
في عام 1995، عقب 5 سنوات من مغادرة تاتشر منصبها، قابلت مصادفةً يونغ وزوجته ليتا خلال قضاء إجازة، وقد دفعني ذلك اللقاء بالمصادفة إلى التفكير في كتاب "The Commanding Heights" الذي تحول إلى مسلسل تلفزيوني تم إذاعته على PBS وbbc، وأصبح موضوع الكتاب يمثل محور المعركة وكيفية التوازن بين عمل الحكومات والأسواق، وهو الأمر الذي المحوري في ثورة تاتشر، وأيضاً بكافة جميع أنحاء العالم في الوقت الحالي.
أخبرني يونغ برواية عندما كان رائد أعمال بمجال العقارات في منتصف السبعينيات، وكيف كان مستاء للغاية من الفوضى الاقتصادية في بريطانيا والمعاناة التي تعرض لها بسبب عداء الكثيرون لفكرة اقتصاد السوق، حيث ازداد ذلك العداء للأسواق بشكل كبير لدرجة إخفاء رجال الأعمال حقيقتهم عن الناس. وقال يونغ: "لم يكن مقبول اجتماعيًا العمل الحر".
وصل يونغ إلى نتيجة وهي الهجرة إلى الولايات المتحدة والبدء من جديد، التي قد تكون أقصر هجرة على الإطلاق.
سافر يونغ وزوجته إلى بوسطن وأقاما في فندق ريتز كارلتون، المُطل على الحديقة العامة في بوسطن، لكنهم تفاجئوا بالاستيقاظ صباح الأحد، في أول يوم لهم هناك على صوت صفارات الإنذار، وانطلقا بعد ذلك إلى ما يُمكن اعتباره أول رحلة لهما في بلدهم الجديد لقضاء وقت ممتع في حديقة بوسطن كومون. ولكن بدلاً من ذلك، وجدوا أنفسهم يبكون، بسبب تأثير الغاز المسيل للدموع، الذي أطلقته الشرطة لتفريق المتظاهرين الذين أطلقوا أعمال شغب نتيجة قرار المحكمة بنقل أطفال المدارس، الذي كان يُمزق المدينة.
قالت ليتا ليونغ، وهما يفركون أعينهم بالمناديل: "هل فقدت عقلك، أنت مجنون إذا اعتقدت أني سأتخلى عن عائلتي من أجل هذا."
عادا للفندق واتصلوا بشركة طيران، وغادروا في نفس الليلة إلى لندن. وأثناء الرحلة، فكر يونغ في ضرورة القيام بشيء آخر لتجاوز اليأس وعدم مغادرة البلاد، وهو السياسة.
انتخب يونغ حزب العمال، الذي كان يقود البلاد إلى كارثة اقتصادية، وبعدها تم انتخاب مارغريت تاتشر زعيمة لحزب المحافظين، والتي حملت أفكارًا جديدة ومختلفة حول الاقتصاد البريطاني الذي يُعاني ركود ويحتاج إلى إعادة تحريره، وقد سيطرت عليه نفس الأفكار.
مع العودة إلى لندن، اتصل يونغ بالسياسي المحافظ، كيث جوزيف، الذي كانت تصفه تاتشر بأنه "أقرب أصدقائي السياسيين"، وانضم بعدها يونغ لفريق العمل المقرب من تاتشر، التي أصبحت رئيسة للوزراء، عينته بسلسلة مناصب وزارية وغيرها من المناصب العليا، وتركزت مهمته في إعادة تعافي الاقتصاد، وخفض معدل البطالة، حيث ركز على قبول ريادة الأعمال اجتماعياً من جديد.
مثل يونغ القوة الدافعة لجهود الحكومة من أجل خصخصة قطاعات كبيرة في الاقتصاد البريطاني عن طريق تحويل الشركات الحكومية الخاسرة لشركات مساهمة عامة.
كانت المهمة شاقة سياسياً ومالياً وتنظيمياً، فقد احتاج ذلك على سبيل المثال إلى إخراج شركة الاتصالات بعيداً عن سيطرة مكتب البريد، وبشكل عام، قال يونغ: "حولت سنوات تاتشر الاقتصاد البريطاني من قيادة المُنتج إلى اقتصاد يقوده المستهلك، وأصبحت اقتصادًا تنافسيًا". دون مزيد من الاقتراب لحالة ألمانيا الشرقية.
دافع يونغ أيضًا عن نفق Chunnel، تحت القناة، الذي يربط إنجلترا وفرنسا بالقطار، حيث كان الشخص الذي ضغط زر إطلاق التدريبات الأولى لبدء حفر ذلك المشروع الضخم.
في عام 1984، قالت تاتشر: "بينما يأتي لي العديد لحل مشاكلهم، كان ديفيد يونغ يأتي بإنجازات."، كما كتبت في مذكراتها أن يونغ "فهم كيفية تنفيذ الأمور". ولم يكن لتلك الأمور أن تحدث بدون تحول يونغ بسرعة من هجرته المحتملة إلى الولايات المتحدة والعودة إلى بريطانيا.
الدرس هنا، مع انغماس بريطانيا من جديد في صراع عمالي وتوسيع الحكومات حول العالم لدورها في الاقتصاد، يحتاج رئيس الوزراء البريطاني الحالي، ريشي سوناك إلى أشخاص مثل ديفيد يونغ، لا يكتفون بتحديد المشاكل لكنهم يجدون حلول في العصر الاقتصادي الجديد لبريطانيا، حيث الفوضى وعجز الميزانية، حلول تركز على النمو الاقتصادي.