محطة بحرية استراتيجية وأداة لجذب الاستثمارات وتوفير آلاف الوظائف
الانقسام وعدم استقرار التشريعات والإجراءات الإدارية على رأس التحديات
في خطوة تعكس توجه ليبيا نحو تنويع مصادر دخلها وبناء اقتصاد يرتكز على الموقع الجغرافي والمزايا اللوجستية، تمضي السلطات قُدُماً في تنفيذ مشروع المنطقة الحرة بمدينة سرت، على ساحل البحر الأبيض المتوسط باستثمارات تصل إلى ملياري دولار.
ويُنظر إلى هذا المشروع كمحور استراتيجي لإعادة تموضع ليبيا على خريطة التجارة الإقليمية والدولية، مستفيداً من موقع سرت المتوسط بين الشرق والغرب، وقربها من الأسواق الأوروبية والإفريقية. ومع إنجاز نحو 65% من الأرصفة البحرية، يكتسب المشروع زخماً متزايداً، وسط خطط مستقبلية لطرحه أمام شركات إدارة كبرى في المنطقة.
بحسب حديث مسؤولين ليبيين، وخبير اقتصادي، لـ«إرم بزنس»، فإن المشروع يستهدف تنويع الاقتصاد الذي يرتكز ما يقارب 98% منه على النفط، متوقعين أن يجذب استثمارات مليارية للبلاد وأن يكون نقطة تحول استراتيجية للاقتصاد مقابل تخوف من أن يصطدم بتحديات عديدة أهمها الانقسام بالبلاد وعدم استقرار التشريعات واللوجستيات والإجراءات الإدارية والمالية.
وبنحو 98%، من نشاطها الاقتصادي، يعد إنتاج النفط مصدر الدخل الرئيس في ليبيا المنقسمة سياسياً بين الشرق والغرب، إذ بلغت إيرادات النفط في البلاد 20.7 مليار دولار في 2023، فيما تراجعت في 2024 إلى 15.5 مليار دولار.
كشف رئيس مجلس الإدارة والمدير العام في المنطقة الحرة سرت، الدكتور محمود الفرجاني، أن قيمة الاستثمار بمشروع المنطقة الحرة في سرت تصل إلى ملياري دولار، وتمتد على مساحة تفوق 214 هكتاراً، كجزء من تنفيذ «رؤية ليبيا 2030» التي أقرّها الجهاز الوطني للتنمية.
وأوضح الفرجاني، في تصريحات نقلتها صفحة المنطقة الحرة عبر «فيسبوك» في الـ27 من يونيو الماضي، أن المشروع يُنفّذ على ثلاث مراحل: الأولى شملت تنظيف وتشغيل الميناء بالكامل، فيما تضمنت الثانية رصف الأرصفة الجنوبية والشرقية بنسبة إنجاز حالية تقارب 65%، وتهدف الثالثة إلى تعميق الأعماق البحرية إلى 25 متراً لاستيعاب السفن العملاقة وخطوط الحاويات العابرة، دون تحديد موعد افتتاح المشروع.
كما توقع رئيس مجلس الإدارة والمدير العام في المنطقة الحرة أن يوفر المشروع في سرت أكثر من 6 آلاف وظيفة ضمن قطاعات النقل والخدمات اللوجستية وسلاسل الإمداد، مؤكداً أنه سيشكل «رافعة قوية للاقتصاد المحلي»، مضيفاً: «أجريت محادثات في الدوحة مع شركات قطرية لتشغيل الميناء، وتلقينا عروضاً من موانئ أبوظبي، وشركات سعودية وعُمانية أيضاً، كما نعمل مع الصين ومع شركة (تشاينا هاربور)، لشراكة طويلة الأمد في تطوير وتشغيل الميناء وتنفيذ مزارع للطاقة الشمسية».
في حديث لـ«إرم بزنس»، قال وزير الدولة السابق لشؤون الاقتصاد ورئيس مجلس المنافسة ومنع الاحتكار الليبي الحالي، الدكتور سلامة الغويل، إن المشروع ضخم ويسعى ليكون مركزاً لوجستياً إقليمياً على ساحل البحر الأبيض المتوسط، مؤكداً أنه نقطة تحول استراتيجية للاقتصاد الليبي، حيث يُنظر إليه كخطوة نحو التحرر من الارتهان للنفط المصدر شبه الوحيد للدخل، وذلك من خلال تعزيز التجارة، واللوجستيات، والاستثمار الإقليمي والدولي، وسيشكل قاطرة اقتصادية للبلاد إذا استُخدم كمنصة للتنمية الشاملة.
وبالنسبة لأهمية المنطقة الحرة في سرت الليبية، أوضح الغويل أن سرت جغرافياً واقتصادياً، تقع في موضع متوسط بين شرق ليبيا وغربها، وتشكل نقطة توازن جغرافي يمكن استغلالها لتعزيز الوحدة الاقتصادية، وإطلالتها على البحر المتوسط يجعلها محطة بحرية استراتيجية بين أوروبا وشمال إفريقيا.
الغويل تابع: «وظيفياً وتنموياً، تُعتبر المنطقة الحرة أداة لجذب رؤوس الأموال الأجنبية، وتشجيع المستثمرين عبر الحوافز الضريبية والتشريعية، كما توفر فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، وتدعم سلاسل التوريد واللوجستيات، بخلاف أنها على المستوى الاستراتيجي تعزز الموقع الجيوسياسي لليبيا كلاعب اقتصادي إقليمي بدلاً من مجرد ممر للموارد الخام، وتسهم في إعادة التوازن للتنمية المكانية بعيداً عن تمركز المشاريع في الغرب والشرق».
المسؤول الليبي توقع أيضاً أن يسهم المشروع في استثمارات مليارية تدعم الاقتصاد وتنويعه، مشترطاً إدارة المشروع بكفاءة وشفافية، مع اتجاه المنطقة الحرة لتعزيز حركة البضائع والخدمات، وتنشيط الأسواق المحلية عبر زيادة الطلب على الخدمات المهنية، والفندقية، والتجارية، وتحويل المدينة إلى ساحة تنافس اقتصادي بدلاً من صراع سياسي، فضلاً عن أنه يسهم في بناء قاعدة إنتاج محلية مرتبطة بالسوق الإقليمية، ويقلل الاعتماد على الواردات، ويدخل العملة الصعبة إلى البلاد من خلال الرسوم، والعقود، والخدمات المقدّمة للمستثمرين الأجانب.
«إزاء هذه الفرص، فهناك تحديات محتملة»، بحسب الغويل، وهي احتمال عدم الاستقرار الأمني والسياسي لأن أي منطقة حرة تحتاج إلى بيئة آمنة وتوافق وطني دون تجاذبات سياسية لضمان الاستثمارات، فضلاً عن احتمال غياب التشريعات الاستثمارية الجاذبة التي قد تعرقل ثقة المستثمرين، بخلاف التحديات اللوجستية نظراً لأن الربط بين المنطقة الحرة وبقية المناطق يتطلب استثمارات موازية في الطرق، والسكك الحديدية، والمطارات.
من جانبه اعتبر رئيس منتدى بنغازي للتطوير الاقتصادي والتنمية، المحلل الاقتصادي خالد بوزعكوك، في حديثه مع «إرم بزنس»، أن المنطقة الحرة بمدينة سرت مشروع استراتيجي يهدف إلى تعزيز وتنويع الاقتصاد الليبي وفتح آفاق جديدة للتجارة والاستثمار، بفضل موقعها الجغرافي المتميز في حوض البحر الأبيض.
وأبدى بوزعكوك ثقته بتوفير فرص عمل للآلاف موضحاً أنه من المتوقع عبر تطوير المنطقة الحرة سرت، توفير آلاف فرص العمل لأبناء المنطقة الوسطى والمدن الليبية الأخرى؛ ما يعزز النمو الاقتصادي في ليبيا ويعطي فرصة لانتعاش سرت والمدن المجاورة لتحقيق نقلة نوعية في الاقتصاد الليبي من خلال تسهيل حركة التجارة بين ليبيا والأسواق الأوروبية والإفريقية.
بالمقابل، اشترط المستشار السابق بوزارة النفط والخبير الاقتصادي الدكتور أحمد الغابر، في حديث إلى «إرم بزنس» إشراف جهات أو هيئات حكومية موحدة في البلاد على أي عمل أو مشروع مدني اقتصادي، مثل: المنطقة الحرة بسرت في منتصف الساحل, مؤكداً ضرورة هذا الشرط وحتميته لما يخدم اقتصاد البلاد وتنويعه وليستفيد منه كل الليبيين ويضمن نجاح المشروع وتحقيق أهدافه.
كما نبه الغابر إلى ملاحظة مهمة تتمثل في وجود منطقة حرة أخرى قائمة في مصراتة غير البعيدة عن سرت فيما تعمل بشكل مترنح للأسباب نفسها التي تعاني منها كل المشاريع في ليبيا من عدم استقرار التشريعات واللوجستيات والإجراءات الإدارية والمالية التي تهم مثل هذه المشاريع الاقتصادية.
الغابر لفت أيضاً إلى أن من المحتمل أن يكون مردود المشروع متواضعاً وقد لا يحقق النتائج الاقتصادية المرجوة منه إلا إذا تم توسيع وتنويع المشاركات الدولية لموجودات ومخرجات المشروع وتنمية تواصلها واتصالاتها بمواقع خارج البلاد في شمال إفريقيا وعمق القارة، مؤكداً أن هذا يتطلب حكومة مستقرة تسهل التواصل مع العالم وتعمل على تأسيس بنية تحتية من طرق وسكك حديد بشكل مناطقي تعبر الحدود للدول المجاورة وتفتح الطريق لعمل شركات دولية وهذا الهيكل المناطقي الدولي يصعب إنشاؤه في دولة منقسمة مثل ليبيا.
كذلك أشار الغابر إلى أن فترة الثمانينيات شهدت اقتراح شركات استشارية أوروبية وسويسرية تأسيس منطقة اقتصادية حرة في منتصف الساحل الليبي بين سرت ومصراتة وإنشاء بنية تحتية دولية متكاملة من طرق وموانئ ومطارات وسكك حديد تربط شمال ليبيا بالعمق الإفريقي، لافتاً إلى أن هذا المشروع لم ير النور بسبب عدم استقرار النظام وعزوف الشركات والمستثمرين الدوليين عن العمل في ليبيا، واستمرت الحال على ما هي عليه حتى الآن.