ثلاثة لقاءات ليبية بقيادة المصرف المركزي خلال نحو أسبوع مع صندوق النقد الدولي تأتي بعد خفض مفاجئ لعملة الدينار للمرة الأولى منذ نحو أربعة أعوام، وشكوى علنية من ضغط الإنفاق الحكومي، وتحذير من انهيار اقتصادي ومخاوف مراقبين من الذهاب لخفض جديد ضمن إصلاحيات مصرفية لتفادي أي تهديد مستقبلي.
خبراء ليبيون في الشأن الاقتصادي، بينهم مسؤول مالي سابق، أوضحوا لـ«إرم بزنس» أن المشاورات قائمة على المادة الرابعة في صندوق النقد الدولي وهي معنية بالاستشارات فقط دون منح قروض، وبالتالي توصياتها غير ملزمة، ولن تفرض شيئاً على الاقتصاد الليبي.
واستبعدوا في ظل الانقسام السياسي وعدم الاتفاق على ميزانية موحدة بين حكومتي الشرق والغرب أن يكون هناك استجابة لتلك الملاحظات الدولية للإصلاح المالي بالبلاد، أو أن يكون هناك انخفاض جديد للعملة المحلية والتوجه لاستقرار شريطة الالتزام بإجراءات إصلاحية سريعة، منها تقليل الإنفاق الحكومي وإلا كل شيء وارد.
قرر مصرف ليبيا المركزي، المسؤول عن إيرادات النفط المصدر الرئيس للعملة الأجنبية بالبلاد ودفع رواتب موظفي الدولة في بيان يوم الـ6 من أبريل الحالي، «تخفيض قيمة الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية 13.3%»، ليصبح 5.5677 دينار مقابل الدولار، وهو أول خفض رسمي منذ عام 2020، عندما حُدِّد السعر عند 4.48 دينار للدولار، فيما بلغ سعره في السوق الموازية 7.20 دينار مقابل الدولار، بحسب ما نقلته «رويترز» آنذاك.
وأفاد مصرف ليبيا المركزي، في بيان توضيحي للقرار، بأن إجمالي إنفاق الحكومتين المتنافستين خلال عام 2024 بلغ 224 مليار دينار «نحو 46 مليار دولار»، من بينها 42 مليار دينار «نحو 8.6 مليار دولار» خصصت لمبادلات النفط الخام مقابل الوقود المستورد.
وأكد أن هذا الإنفاق تسبب في طلب على النقد الأجنبي بقيمة 36 مليار دولار، فقد أسهم في اتساع واختلاف الفجوة في العرض والطلب من العملات الأجنبية، وحال دون تحقيق أهداف المصرف في المحافظة على قيمة الدينار الليبي.
حذر المصرف من أن «استمرار توسع الحكومتين في الإنفاق بنفس وتيرة عام 2024 سيفاقم المالي والاقتصادي»، موضحاً أن «بيانات الربع الأول من 2025 تظهر استمرار وتيرة الإنفاق العام المزدوج والتمويل بالعجز وارتفاع الطلب على النقد الأجنبي وعجز الإيرادات النفطية عن تغطيته»، ووصف ذلك بـ«الأمر الخطير».
وبحسب البيان، فإن إجمالي مصروفات النقد الأجنبي في الربع الأول من العام الجاري بلغ نحو 9.8 مليار دولار، بينما الإيرادات النفطية والإتاوات الموردة للمصرف المركزي (تعاملات النقد الأجنبي لدى المصرف) بلغت نحو 5.2 مليار دولار حتى يوم الـ27 من مارس الماضي بعجز بلغ نحو 4.6 مليار دولار خلال ثلاثة أشهر فقط (الربع الأول)، مؤكداً أن «الوضع سيزداد خطورة حال انخفاض معدلات إنتاج وصادرات النفط لأي متغيرات، أو تدهور أسعار النفط العالمية».
وبعد خطوة التخفيض، عقد البنك المركزي الليبي 6 لقاءات بشأن المسار المالي للبلاد في ظل أزمة الدينار الحالية نصفها كان مع صندوق النقد الدولي، بحسب بيانات للمصرف في الفترة من الـ14 إلى الـ23 من أبريل الجاري.
وترأس محافظ البنك المركزي ناجي عيسى، في الـ14 من أبريل الحالي، جلسة مشاورات المادة الرابعة بين مصرف ليبيا المركزي وصندوق النقد، بهدف «تقييم الأوضاع الاقتصادية والمالية في ليبيا»، والتقى، بواشنطن يومي 21 و22 من الشهر ذاته، مسؤولين بصندوق النقد هما نائب مدير الصندوق كنجي أوكامورا ومدير الشرق الأوسط جهاد أزعور، لبحث مساعي حلحلة الأزمة بالبلاد وتقوية قيمة الدينار الليبي.
وعقد عيسى، في 16 و17 أبريل، لقاءات مع أعضاء مجلس النواب الليبي، ورئيس الحكومتين عبدالحميد الدبيبة وأسامة حماد بحث خلالها «تداعيات الإنفاق العام على الوضع الاقتصادي والمالي، وآثاره على قوة الدينار الليبي»، مشدداً على أن «الوضع الاقتصادي يتطلب قرارات جريئة، وتعاوناً وطنياً واسعاً، لتفادي سيناريوهات الانهيار الاقتصادي».
أوضح أستاذ الاقتصاد في جامعة بنغازي الدكتور أيوب الفارسي لـ«ارم بزنس»، أن صندوق النقد يتدخل عادة في القرار الاقتصادي للدولة عندما تطلب منه قرضاً تحاول ضمان تسديده، وتفرض على الدولة طالبة القرض إصلاحات وضرائب وتخفيضاً وتعويماً للعملة، ومقابل هذا القرض تكون التوصيات ملزمة للحصول على هذا التمويل، أما ليبيا فدولة مانحة، وليست دولة مقترضة، وبالتالي قرارات الصندوق فيما يتعلق الإصلاح المالي غير ملزمة لها واستشارية فقط.
وتظل العقبة أمام تنفيذ أي حزمة إصلاحات بحسب الدكتور أيوب الفارسي هو الانقسام السياسي الذي أخّر الوصول إلى صيغة اقتصادية لا تضغط على العملة، لافتاً إلى أن تخفيض قيمة العملة جاء بسبب حجم الإنفاق الكبير الذي لم يستطع المصرف تغطيته بناء على حجم الإيرادات وأسعار النفط العالمية.
ولا يتوقف قرار خفض جديد للدينار على المصرف المركزي بمفرده، ولكن على سلوك المالية العامة للدولة ومدى إمكانية الوصول لميزانية موحدة، وفق الفارسي، الذي قال: «إذا لم يتم التوصل لميزانية موحدة، واستمر الإنفاق غير المنضبط، فإنه سوف تُخَفَّض قيمة العملة مرات ومرات. أما إذا كان هناك ضبط في المالية، وأُقِرَّت الميزانية الموحدة، فنحن نتجه إلى استقرار».
وبلغ الدين العام الليبي 270 مليار دينار وسط توقعات بأن يتجاوز 330 مليار دينار بحلول نهاية العام، بحسب المصرف، الذي أكد قيامه بكامل واجباته في المحافظة على الأصول الأجنبية عند مستويات تتجاوز 94 مليار دولار، منها 84 مليار دولار احتياطيات يديرها المصرف.
قال الخبير الاقتصادي ووكيل وزارة المالية والتخطيط بليبيا سابقاً إدريس الشريف لـ«إرم بزنس»، إنه لو صدرت توصيات غير ملزمة من الصندوق في إطار معالجة التضخم وانخفاض قيمة الدينار مثلاً، فأغلب هذه الإصلاحات لا تقع كلها في اختصاص السلطة النقدية فقط، وإنما هي تخص السلطات المالية (الحكومة) والنقدية معاً وبعضها يحتاج إلى غطاء تشريعي من مجلس النواب، ونظراً إلى حالة الانقسام السياسي التي يعيشها البلد وعدم كفاءة الإدارة الحكومية، فأغلب هذه الإصلاحات، حتى لو أُقِرَّت تظل مجرد حبر على ورق للأسف».
وأوضح أن الأسباب الرئيسة أيضاً لانخفاض قيمة الدينار تتضمن أيضاً عدم الثقة لدى حائزي العملة باستقرار وثبات السياسات الاقتصادية وحالة عدم الاستقرار السياسي والأمني؛ ما يدفعه لفقد الثقة بثبات واستقرار قيمتها الشرائية، وبالتالي تحويلها لعملات أجنبية بغرض التحوط وكملاذ آمن؛ ما يزيد الطلب على العملات الأجنبية، ويزيد سعرها في السوق السوداء.
وأضاف: «مع إنفاق عام منفلت وعجز مالي كبير وغير مدروس بالميزانية كل ذلك يفاقم من حدة الأزمة، ويرفع من معدلات التضخم، ويدفع بقيمة الدينار إلى الانخفاض مرة بعد مرة»، مطالباً بأن تتخذ السلطات خطوات مالية ونقدية إصلاحية جادة وعاجلة وإلا هناك خطر يهدد الاستقرار الاقتصادي في البلد، وقد يدخلها في نفق يصعب الخروج منه.
رأى رئيس منتدى بنغازي للتطوير الاقتصادي والتنمية المحلل الاقتصادي، خالد بوزعكوك، في حديث لـ«إرم بزنس» أن من أهم أسباب انخفاض سعر الدينار هو العرض الزائد من النقود، وفاتورة الاستيراد العالية، وضعف الرقابة المالية والنقدية في البنوك»،
وجزم بأن التزام مصرف ليبيا المركزي ووزارة المالية بتنفيذ توصيات الصندوق غير الملزمة سيعزز وضع الدينار الليبي، أو على الأقل يثبت السعر الحالي.
ويضاف للتوصيات، بحسب بوزعكوك تقليل حجم العرض المالي من النقود خارج البنوك الذي وصل إلى 60 مليار دينار، ووقف مصرف ليبيا المركزي التعامل مع إصدار فئة الخمسين ديناراً آخر الشهر الجاري ما سيسهم في الحد من العرض المالي الضخم وغير المبرر، فقد تجاوز حجم الإيداعات 11 مليار دينار دخلت إلى البنوك، وهو مؤشر جيد يعزز ثبات وقوة الدينار».