الزيودي: نعيد تعريف مفهوم التكتلات مع ظهور «بريكس» و«آسيان» وغيرهما
حوار إستراتيجي معمّق حول كيفية التعامل مع النظام العالمي المضطرب والأحداث المتسارعة في المجالات الجيوسياسية والجيواقتصادية والجيوتكنولوجية، شهده «منتدى هيلي» الذي عُقد في العاصمة الإماراتية أبوظبي يومي الاثنين والثلاثاء.
النقاشات التي شارك فيها نحو 800 مشارك من أكثر من 25 دولة، ركّزت على القضايا الحاسمة التي تسهم في إعادة تشكيل عالم اليوم، لا سيما في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها الاقتصاد العالمي، والتي ظهر معها نظام جديد يتّسم بتوزيع أكثر تنوعاً للقوة الاقتصادية، وهو ما يمهّد للتحوّل نحو «تعددية قطبية» كان البنك الدولي تنبأ بها في ثمانينيات القرن الماضي، مستنداً إلى أنماط النمو في العديد من الدول النامية.
من بين المظاهر الأكثر وضوحاً لهذا التحوّل، صعود عدد من الاقتصادات الناشئة، مثل: الصين والهند وإندونيسيا والبرازيل وروسيا، التي أصبحت لها مساهمات كبيرة في النمو العالمي. وبينما يقترن التحوّل الجيوسياسي إلى نظام متعدد الأقطاب باقتصاد متعدد المراكز، نجد هذه المراكز قد تنوعت اليوم لتشمل الاقتصادات الناشئة في بلدان ما يسمى بـ«الجنوب العالمي»، بعدما كانت المراكز التجارية في السابق تتركّز في الغرب.
كذلك، فإن الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، أدت إلى تسريع الخطى نحو التعددية القطبية، نتيجة ردود الفعل والتغيّرات التي خلّفتها. وفي حين تسعى الولايات المتحدة إلى المحافظة على نظام عالمي أحادي القطب لا يُنازعها فيه أحد على هيمنتها، مع اتخاذها من الاتحاد الأوروبي حليفاً موثوقاً، فإن دولاً صاعدة، كالصين وروسيا، تشجع على خلق نظام متعدّد القوى والأقطاب، خصوصاً أن تحوّل القوة في النظام العالمي بات أمراً لا رجعة فيه، لأن نشوء اقتصاد متعدد المراكز يتناقض وسياسة القطب الواحد.
وفي هكذا مناخ تنافسي، تحاول الدول «الأخرى» إتقان فن المرونة الإستراتيجية، والقدرة على العمل، مع، ووسط مختلف أنظمة القوة والاقتصاد.
في إحدى الجلسات الرئيسة للمنتدى، اعتبر ﺛﺎني اﻟﺰﻳﻮدي، وزﻳﺮ الدوﻟﺔ ﻟﻠﺘﺠﺎرة الخارجية في الإمارات، أن الأمور تتغيّر بالفعل، وتسير بوتيرة سريعة. فالنمو الاقتصادي العالمي، كما قال، يأتي من دول الجنوب، مدفوعاً بنمو الطبقة الوسطى، إلى جانب اعتماد التكنولوجيا. «وبينما تغلق دول الغرب أبوابها، تبرز الدول الناشئة في آسيا وأفريقيا والجزء الجنوبي من أميركا، كأسواق حقيقية»، وفق تعبيره.
قال اﻟﺰﻳﻮدي: «في السنوات الأخيرة، لم تعد أوروبا أكبر مصدّر للسلع الرئيسة، بل الاقتصادات الناشئة، والصين من بينها. ومن ناحية أخرى، اعتمدت الدول الغربية بشكل كبير في نموها على حركة الكفاءات والمواهب، لكننا أصبحنا نرى أخيراً، تغيّراً في ديناميات الهجرة، مع ظهور الهجرات العكسية نحو البلدان الأصلية، والتوجه نحو مراكز جديدة كالإمارات وسنغافورة وكندا».
الوزﻳﺮ الزيودي أكد أن العولمة لم تنتهِ، «لكن ما بدأنا نشهده إلى حد ما هو التجزئة». وقال: «معظم الاتفاقيات التجارية باتت تتم بين الدول الناشئة. وقد خضع مفهوم العولمة لإعادة تعريف. فبعدما كانت في السابق تعرّف على أنها تشكيل تكتلات وتوسعتها إلى بقية العالم فيما بعد، نعيد الآن تعريف مفهوم التكتل وما هي المناطق التي نتحدث عنها».
وأضاف: «التكتلات في السابق كانت الاتحاد الأوروبي والتكتلات التقليدية الأكثر قرباً من القوى الكبرى. أما اليوم، فالتكتلات الجديدة أصبحت (آسيان) و(بريكس) والممرات الاقتصادية المستحدثة».
وتابع: «بدأنا نشهد أيضاً نمطاً جديداً من أنماط القوة. فلم تعد القوة مقتصرة فقط على قوة الحرب والقوة الناعمة كالدبلوماسية والاقتصاد، بل برزت القوة التكنولوجية التي أصبحت عنصراً مهماً في التمييز بين الأمم. ولم تعد هذه القوة نابعة من الدول، بل برز لاعبون تكنولوجيون يؤدون الدور الأكبر، وباتت بعض الشركات أكثر قوة من الدول نفسها».
الزيودي: التكتلات في السابق كانت الاتحاد الأوروبي والتكتلات التقليدية الأكثر قرباً من القوى الكبرى. أما اليوم، فالتكتلات الجديدة أصبحت «آسيان» و«بريكس» والممرات الاقتصادية المستحدثة
لم تغب عن محاور نقاشات «منتدى هيلي» سياسة العقوبات التي تنتهجها الولايات المتحدة، واستياء دول الجنوب منها، إلى حد بدأت معه في البحث عن أسواق وأنظمة تجارية بديلة. وقد خلق هذا الواقع زخماً كبيراً في التجارة بين الدول النامية. كما برز سعي آخر لدى العديد من البلدان الناشئة نحو تقليص اعتمادها على الدولار في المعاملات التجارية، وبدأنا نسمع عن عمليات المقايضة بالعملات الوطنية.
في هذا السياق، رأى زانغ يمينغ، سفير الصين لدى الإمارات، أن العالم غدا الآن مقسّماً بسبب تداعيات جائحة كورونا والتوترات السياسية، حيث يمكن ملاحظة صعود الحمائية والشعبوية، وكيف أن بعض الدول تستخدم العقوبات للضغط على الصين والعديد من الدول النامية الأخرى، على حد قوله.
وأضاف: «نحن فخورون برؤية الجنوب العالمي كمفهوم جديد يواصل النمو بشكل متسارع وبزخم غير منقطع، ويتحول إلى قوة مهيمنة في هذه الجولة الجديدة من العولمة».
بحسب البنك الدولي، يفوق الناتج المحلي الإجمالي المجمّع للصين، والهند، وروسيا، فضلاً عن جنوب إفريقيا، وإندونيسيا، والبرازيل وإيران، مثيله في مجموعة الدول السبع. كما يشير البنك الدولي إلى أن الصين أسهمت بنحو ثلث النمو الاقتصادي العالمي منذ عام 2009، فيما ضاقت الفجوة التكنولوجية بينها وبين الغرب.
وفي ظل تباطؤ النمو العالمي، تُظهر الدول النامية، وبالأخص الأسواق الناشئة كالهند وإندونيسيا وإفريقيا الوسطى، إلى جانب الصين، زخماً كبيراً في النمو المستدام، وفق ما أشار إليه يمينغ.
ورغم التوتر في العلاقات الصينية الأميركية، فإن بكين أبقت على قنوات الحوار مع واشنطن. وكما قال السفير الصيني لدى الإمارات خلال الجلسة التي جمعته بوزير الدولة الإماراتي للتجارة الخارجية، «نحن نتحدث عن أكبر قوتين في العالم. المشاركة تبقى دائماً أمراً حيوياً للصين وللولايات المتحدة، وأيضاً من أجل استقرار ورفاه العالم».
كان حجم التجارة الثنائية بين الصين والولايات المتحدة قد شهد تراجعاً ملحوظاً مقارنة بمستويات ما قبل جائحة كوفيد، لكن السفير الصيني في الإمارات استشهد بمَثل صيني قديم يقول «إن لم تكن السماء مضيئة في الغرب، فستشرق الشمس من الشرق»، في إشارة إلى دول المنطقة ودول آسيا وبقية الدول الناشئة.
وقال: «تجارتنا مع الشرق الأوسط نمت في العام الماضي إلى 400 مليار دولار، فيما سجّل حجم التجارة البينية مع الإمارات 95 مليار دولار، مع تطلعنا للوصول بهذا الرقم إلى 200 مليار دولار بحلول 2030. هذا إلى جانب دخولنا في مفاوضات مع دول الخليج لإبرام اتفاقية تجارة حرة مع المنطقة».
من جهتها، «تواصل الإمارات علاقاتها مع بقية العالم، وتحاول خلق توازن بين القوى الكبرى المختلفة، وفي الوقت ذاته، ضمان التنوع في علاقات الشراكة، وفي الإمدادات والمواهب التي تستقطبها، إلى جانب التنوع التكنولوجي لضمان النمو»، بحسب ما قاله الوزير الإماراتي ثاني الزيودي.
وفي هذا السياق، يظل البقاء على مسافة واحدة من جميع الأطراف في عالم يمضي نحو التعددية القطبية «أمراً ممكناً»، بحسب ما قاله كبير الاقتصاديين في مصرف الإمارات المركزي، باسم قمر، في حديث إلى «إرم بزنس».
قال قمر: «حققت الإمارات نجاحاً في ذلك. تاريخياً، ربطت الإمارات والولايات المتحدة علاقات قوية، وبما أن الصين تتحوّل إلى أحد أهم شركاء الإمارات، فمن الطبيعي أن تربطها بها علاقات متميزة». وأشار إلى أن وجود علاقات اقتصادية وتجارية قوية مع الصين، لا يزعج الولايات المتحدة، بل على العكس، فإن من مصلحة الأخيرة أن يكون لها شريك بإمكانه لعب دور الوسيط والدخول في حوار مع خصومها، لتقريب وجهات النظر عند نشوب أي خلاف.
تأكيداً على أهمية مثل هذا الدور، قال قمر: «مستوى النضج الدبلوماسي للإمارات مرتفع جداً. هذا ما شهدناه خلال استضافتها المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية، ومؤتمر المناخ (كوب 28)، حيث تمكنت بواسطة القوة الناعمة من التوصل إلى اتفاقيات لم تكن ممكنة في السابق».