بأطنان من القمح مجانية ومناقشات لإحياء أنبوب نفطي استراتيجي يمتد عبر سوريا لأوروبا، تبدأ بغداد في طَرق أبواب العاصمة دمشق التي ارتدت ثوباً سياسياً جديداً قبل أشهر مغايراً لتوجهات سياسة العراق الحاكمة حالياً، وذلك لإحياء تبادل تجاري كان يشكل قبل 14 عاماً، 80% قبل أن ينخفض حالياً إلى 5%.
ويعتقد خبراء في الشأن الاقتصادي بالعراق وسوريا، في تصريحات لـ«إرم بزنس»، أن البلدين تحت ضغوط الأوضاع الاقتصادية والبحث عن فرص تنمية جديدة يتجهان لفتح بوابة تعاون اقتصادي أكبر قد يتدرج للوصول لسابق عهده قبل 2011، في مجالات صناعية ونفطية وزراعية، شريطة فتح حوار اقتصادي حقيقي، لتجاوز تحديات أبرزها الإجراءات الإدارية الروتينية ومخاوف عدم الاستقرار الأمني التي تعيق حالياً تنشيط أكبر منفذ للتبادل التجاري بين البلدين.
ويعتقد رئيس قسم الاقتصاد بجامعة دمشق عبد القادر عزوز، في حديث لـ«إرم بزنس»، أن «خطوة تقديم قمح من العراق لسوريا ليس خطوة كافية في ظل رغبة ثنائية لعلاقات اقتصادية تقوم على إطار تبادل تجاري متزايد واستثمار مشترك قوي ينعكس إيجابياً على اقتصاد البلدين»، مؤكداً أن «العلاقات السورية العراقية في مختلف المجالات، ومنها الاقتصادية مصدر استقرار للمنطقة، فلو تصدعت اقتصادياً لـانعكس ذلك عليها سلباً، ولو تحسنت لـتأثرت إيجابياً».
وأعلن العراق، في الـ25 من أبريل الجاري «إطلاق حملة لنقل 220 ألف طن من القمح كهدية إلى الشعب السوري»، فيما أفاد المتحدث باسم وزارة التجارة محمد حنون في اليوم التالي، بأن تلك المساعدات في «إطار بداية لعلاقة استراتيجية جديدة قائمة على تبادل المصالح المشتركة، وتفعيل العلاقات الاقتصادية تأخذ في نظر الاعتبار دور هذين البلدين»، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء العراقية الرسمية (واع).
واعتبر المدير العام للمؤسسة العامة للحبوب السورية، حسن عثمان، أن «هذه الهدية التي بدأت تصل للأراضي السورية منذ الجمعة ليست مجرد شحنة قمح، بل هي ثمرة من ثمرات إعادة بناء وتعزيز العلاقات الأخوية مع الشعب العراقي، ونأمل أن تكون هذه المبادرة فاتحة لمزيد من التعاون في مختلف المجالات»، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء السورية الرسمية آنذاك.
وبلغ إنتاج العراق من القمح 6.3 مليون طن في 2024، بزيادة تصل إلى 21% على أساس سنوي، فيما تستورد سوريا منذ 2011 ثلثي احتياجها السنوي من القمح، البالغ 2.5 مليون طن، ولا سيما من إيران وروسيا اللتين كانتا داعمتين للنظام السابق برئاسة بشار الأسد، وسط عجز بالبلاد بذلك المحصول الاستراتيجي منذ الإطاحة به في ديسمبر الماضي، وجهود سورية رسمية لسد فجوة تقدر بخمسة آلاف طن يومياً هي حاجة البلاد الأساسية من الخبز التمويني، بحسب تصريحات سابقة للمدير العام للمؤسسة العامة للحبوب السورية.
ولا يتوقف التعاون على أطنان القمح المهمة لسوريا في ظل فائض بالعراق، لكن هناك إحياء لأنبوب نفطي استراتيجي يحتاجه العراق لتشغيل أكثر من منفذ لصادرات النفط، ولا سيما لأوروبا، وتحتاجه دمشق لتغطية احتياجاتها النفطية، وفق حديث لعضو الهيئة العامة لمجلس القطاع الخاص، واتحاد رجال الأعمال العراقيين، عبد الحسن الزيادي، في حديث لـ«إرم بزنس»، معتقداً أن «هناك فرصاً للتعاون الثنائي بين البلدين، ولا سيما في مشاريع غذائية وصناعية والسياحة الدينية والبنية التحتية والإعمار بالبلدين».
وبتوجيه من رئيس وزراء العراق، محمد شياع السوداني، التقى وفد برئاسة رئيس جهاز المخابرات حميد الشطري الجمعة، الرئيس السوري أحمد الشرع في دمشق، وبحثا «التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وتعزيز الترتيبات المتعلقة بتأمين الشريط الحدودي المشترك وتقويتها بالضدّ من أي خروقات أو تهديدات محتملة، وتوسعة فرص التبادل التجاري ومناقشة إمكانية تأهيل الأنبوب العراقي لنقل النفط عبر الأراضي السورية إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط"، بحسب ما نقلته (واع).
وذكرت الرئاسة السورية في بيان آنذاك أن «الطرفين أكدا تشجيع الاستثمارات بين البلدين، وعقد صفقات تجارية في قطاعات النفط والحبوب، وتشكيل لجان مشتركة لمتابعة تنفيذ الصفقات، بالإضافة للاتفاق على وضع آلية عمل لتشغيل منفذ التنف- الوليد الحدودي بين البلدين».
ويعتقد عبد القادر عزوز أنه من «المهم عودة العلاقات الاقتصادية لقوتها بين البلدين في ظل وحدة المصير وحاجة البلدين لبعضهما البعض تاريخياً وجغرافياً واقتصادياً وسياسياً»، لافتاً إلى أنه «من المفيد إقامة حوار مباشر وزيارات لوفود اقتصادية تضم الوزارات والغرف التجارية والصناعية المعنية للاتفاق على الفرص الاستثمارية والتجارية الواعدة بالبلدين، وإجراء دراسات لكيفية هيكلة الصادرات والواردات بكلا البلدين لتلبية الاحتياجات الفعلية وإقامة معارض مشتركة لتحسين التبادل التجاري والاستفادة من المزايا النسبية والتنافسية في اقتصاد كلا البلدين».
وتواجه سوريا أزمة طاقة حادة بعد انهيار قطاعها النفطي منذ 2011، وكانت تحصل على الجزء الأكبر من إمداداتها النفطية من إيران وروسيا لتوليد الكهرباء، لكن هذه الإمدادات انقطعت منذ الإطاحة بنظام الأسد في ديسمبر الماضي.
والعراق بين أكبر منتجي النفط عالمياً بأكثر من 3 ملايين برميل يومياً، ويبحث باستمرار عن بدائل لتوسيع وتنويع صادراته ولا سيما مع خسارته نحو 19 مليار دولار بسبب أزمة توقف تصدير نفط كردستان عبر تركيا في السنوات الماضية.
وكان للعراق علاقات تاريخية نفطية مع سوريا، وأنشأ خط أنابيب كركوك – بانياس، في خمسينيات القرن الماضي، بطول 880 كيلومتراً بقدرة تدفق تتجاوز 300 ألف برميل يومياً، وسط تقارير إعلامية عراقية باحتمال أن حلول بغداد محل طهران في تزويد سوريا بالمنتجات النفطية، خاصة مع التراجع الكبير بإنتاج النفط السوري، عبر 12 عاماً من 383 ألف برميل يومياً في 2011 إلى نحو 40 ألف برميل فقط في 2023.
وكان العراق يزود سوريا بنحو 33 ألف برميل من النفط الخام يومياً، قبل أن تتوقف عمليات التصدير بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، وبالمقابل كانت سوريا تستورد نحو 5 ملايين برميل من النفط شهرياً، أي ما يعادل أكثر من 160 ألف برميل يومياً، بحسب تقديرات حكومية.
وقبل أيام، كشف عضو مجلس إدارة مجلس الأعمال السوري - العراقي، إبراهيم شلش، في تصريحات لوسائل إعلام عراقية، انخفاض التجارة بين العراق وسوريا إلى 5% فقط بعد أن كانت تشكل 80% قبل 2011، وذلك بسبب الظروف التي مرت بها سوريا في السنوات السابقة وغلق الحدود بين البلدين مؤخراً.
وأوضح أن «العراق يستورد من سوريا الأغذية والخضار والفواكه والألبسة بمختلف أنواعها وصناعات البلاستيك والأدوية وغيرها الكثير، وكان اعتماد العراق على سوريا أكثر من إيران وتركيا والأردن ودول الخليج، لقرب المسافة والحدود المتلاصقة، أما حالياً فقد تراجعت حصة المواد السورية في السوق العراقية، وباتت تشكل ما نسبته 5% فقط»، لافتاً إلى أنه رغم استكمال سوريا متطلبات تشغيل معبر البوكمال، فلا تزال حكومة بغداد مترددة في فتح الحدود مع دمشق.
ووفقاً للبيانات المسجلة في الهيئة العامة للجمارك العراقية، بلغت صادرات سوريا إلى العراق 58 مليون دولار عام 2023 مقابل صادرات عراقية إلى سوريا بقيمة 27 مليون دولار.
ورغم الفرص، فإن عضو الهيئة العامة لمجلس القطاع الخاص، واتحاد رجال الأعمال العراقيين، عبد الحسن الزيادي، يرى أنه لا تزال هناك تحديات تواجه ذلك التعاون المرتقب، ولا سيما في الاستقرار الأمني الذي يعيق استئناف نشاط أكبر منفذ للتبادل التجاري بين البلدين، غير أنه متفائل بإمكانية تجاوز ذلك لتعاون اقتصادي أكبر الفترة المقبلة حال بادلت دمشق بغداد الرغبة نفسها متجاوزة أي تباينات سياسية.
ويعتقد الزيادي أن «الظروف مهيأة لتجاوز أي عقبات لعودة تجارية أكبر وأقوى كالتي كانت في الماضي، وتصل لما يقارب 80% بحكم الجوار والإرادة الجديدة لتحقيق ذلك في ظل حاجة البلدين اقتصادياُ لبعضهما البعض في ظل التطورات الحالية بالمنطقة».
ويتفق رئيس قسم الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور عبد القادر عزوز معه في أن «التعاون الاقتصادي المحتمل يواجه تحديات سواء في الإجراءات الإدارية بشأن الرسوم الجمركية واحتياجات الأسواق لسلع دون أخرى»، مشيراً إلى أن «هذه التحديات يمكن التغلب عليها بالإرادة السياسية المشتركة وإقامة حوار اقتصادي بين الجهات الاقتصادية المعنية في أقرب وقت وعبر خريطة طريق واضحة».