خاص
خاصفؤاد السنيورة -(أرشيفية)

السنيورة يتحدث لـ"إرم"عن علاج أزمات لبنان "المتناسلة والمتكاثرة"

لا خيار بديلاً عن التعاون العالمي حتى في خضمّ الواقع الجيوسياسي المعقد
أكد الرئيس الأسبق للحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة في حوار خاص مع "إرم الاقتصادية" أن الاقتصاد العالمي ما يزال يعاني من الإرغامات التي تفرضها الضغوط التضخمية، ومما تحمله معها الصدمات الجيوسياسية من تأثيرات سلبية كبيرة، إضافة إلى تحديات دخول الذكاء الاصطناعي وتفشي التضليل الإعلامي.

وأشار إلى أن تجربة لبنان في قضية تعاظم حجم الدين العام محزنة، مبدياً أسفه على التفريط بفرص الإصلاح الحقيقي والمستدام التي أتيحت للبنان على مدى العقود الثلاثة الماضية، ومشدداً على أن استعادة سلطة الدولة اللبنانية الكاملة على جميع مرافقها وأراضيها طريق إجباري للخروج من أزْمات البلد "المتناسلة والمتكاثرة".

كما تحدث السنيورة عن تحديات كبيرة ستواجه الاقتصاد العالمي في 2024، حيث تعاني أكثر الدول من توقعات النمو الضعيفة بسبب استمرار تأثيرات حالات عدم اليقين الناجم عن الصراعات الجيوسياسية، واستمرار المشكلات الموروثة، وتلك المستجدة على أكثر من صعيد، فضلاً عن ظروف التمويل الصعبة للعديد من الدول النامية.
 

وفي ما يلي نص الحوار:

-  كيف تقرأ آفاق الاقتصاد العالمي وسط التحديات التي يواجهها؟

 العالم بات منقسماً تستمر فيه حالة عدم اليقين، ويشكو من اضطراب في أكثر من منطقة ومجال، مع ما يحمله ذلك من مخاطر وتداعيات كبيرة، ولا سيما أنّ أوروبا باتت تعاني من صراع عسكري يعد الأشد تدميراً منذ عقود، وكذلك الشرق الأوسط يعاني من استمرار حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وهذا كلّه قد يدفع باتجاه نثر بذور التطرف والعنف وعدم الاستقرار في أكثر من منطقة في العالم.

ما يزال الاقتصاد العالمي يعاني من الإرغامات التي تفرضها الضغوط التضخمية، ومما تحمله معها الصدمات الجيوسياسية من تأثيرات سلبية كبيرة

كما أنَّ دولاً أوروبية عديدة وكذلك الولايات المتحدة بدأت تشهد تسارعاً في صعود اليمين المتطرف، وهو ما يمكن أن تظهره الانتخابات المحلية والتشريعية التي ستجري في عدد من الدول خلال 2024، بما قد يؤدي إلى المزيد من الاستقطاب والتشدد والتطرف.

ومن جانب آخر، ما يزال الاقتصاد العالمي يعاني من الإرغامات التي تفرضها الضغوط التضخمية، ومما تحمله معها الصدمات الجيوسياسية من تأثيرات سلبية كبيرة.

ومع توسُّع انتشار استعمالات الذكاء الاصطناعي، زادت الضرورة لتطوير مفاهيم أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والعمل من أجل تعزيز قواعد الحوكمة فيه، كما بات هناك ضرورة للتنبه إلى تفشي ممارسات التضليل الإعلامي (Fake News)، للحؤول دون تفاقم تأثيراتها السلبية على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي واجتماعي.

هذه التطورات والعوامل والصدمات باتت تشكّل مصدر قلق عالمي إضافي عام 2024، ما يؤكّد على الحاجة الماسة لإعادة بناء الثقة في المستقبل، وكذلك بين الدول وداخل الدول، وهذا يستدعي عملاً جاداً لتحسين العلاقات الدبلوماسية بين الدول للإسهام في حلّ النزاعات القائمة والأخرى المحتملة، وبالتالي الدعوة إلى التكاتف والتعاون بين قادة العالم للحؤول دون انزلاق العالم نحو مخاطر لا يمكن التعامل معها، وكذلك العمل لتحسين ظروف بناء نظام اقتصادي دولي عادل يشمل جميع دول العالم.

لذلك، يتعيّن على أولئك القادة الاستمرار في إعطاء الأولوية لجهود الحد من انتشار ظواهر الفقر المتعددة الأبعاد، لا سيما في دول الجنوب، عبر الإسهام الجدي والفعال في خلق المزيد من فرص العمل في تلك الدول، كالاستثمار في التعليم والتعلّم المستمر في تلك البلاد، ومعالجة قضايا الصحة، والحؤول دون أن ينجم عن الصدمات الجيوسياسية المزيد من القتل والتدمير والتهجير القسري لملايين البشر، والحدِّ من الهجرة غير الشرعية، وهي المخاطر التي تزيد من حدّة المعاناة، وقد توصل إلى زيادة حدّة التشدّد والعنف والإرهاب.

-   ما الحلول لمواجهة التداعيات السلبية للتضخم على اقتصادات الدول لاسيما العربية؟

يبدو أنَّ الاقتصاد العالمي سيواجه خلال هذا العام تحديات كبيرة، حيث ستعاني أكثر الدول من توقعات النمو الضعيفة بسبب استمرار تأثيرات حالات عدم اليقين الناجم عن الصراعات الجيوسياسية، وعن استمرار المشكلات الموروثة، وتلك المستجدة على أكثر من صعيد، وكذلك من ظروف التمويل الصعبة للعديد من الدول النامية. إذْ أنّه من المتوقع أن يتباطأ النمو العالمي إلى 2.9% هذا العام بسبب استمرار العوامل الأكثر إثارة للقلق، لا سيما أنّ الضغوط التضخمية لاتزال تشغل بال المسؤولين في مختلف الاقتصادات العالمية.

 ولذا، فإنَّ مصرف الاحتياط الفيدرالي الأميركي، والمصرف المركزي الأوروبي، والمصرف المركزي الإنجليزي لا تزال تدفع باتجاه التشديد على عدم الإقدام على خفض معدلات الفائدة، بانتظار ظهور أدلّة مقنعة على اتجاه معدلات التضخم نحو النسب المستهدفة، وذلك لأنّ الوضع الدولي العام لا يزال غامضاً ولا يستطيع أحد تخمين مصير التوترات والحروب المستعرة في أكثر من منطقة في العالم، كما أنه لا أحد يستطيع أن يتنبأ بنتائج الانتخابات التي ستحصل في عدد من دول العالم هذا العام.

 ولذلك، حذَّر المنتدى الاقتصادي العالمي القادة العالميين من الاستعجال في تخفيض معدلات الفائدة، لما يحمله ذلك الخفض المستعجل من تهديد للاستقرار الاقتصادي.

- انطلاقاً من خبرتكم بتجربة لبنان.. ما تأثير أزمة الديون العالمية على اقتصادات الدول؟

تجربة لبنان في قضية تعاظم حجم الدين العام لديه تجربة محزنة، حيث -وللأسف- جرى التفريط بجميع فرص الإصلاح الحقيقي والمستدام التي أتيحت للبنان على مدى ثلاثة عقود ماضية، بسبب إرغامات سياسية داخلية وإقليمية في جزء منها، ولكن أيضاً ومن جهة أخرى بسبب الاستعصاء المزمن الناتج عن تقاعس وعدم مبادرة الكثير من السياسيين والمسؤولين لتبني برامج الإصلاح السياسي والاقتصادي والمالي والإداري المطلوب، والذي كان ولايزال يحتاجه لبنان بشدّة.

جرى التفريط بجميع فرص الإصلاح الحقيقي والمستدام التي أتيحت للبنان على مدى ثلاثة عقود ماضية

لذلك، فإنَّ على اللبنانيين، ولا سيما السياسيين والمسؤولين منهم أن يدركوا أنّه ما من طريقة للخروج من هذه الأزْمات المتناسلة والمتكاثرة إلاّ عبر العمل على استعادة سلطة الدولة اللبنانية الكاملة على جميع مرافقها وأراضيها، واستعادة الاعتبار والاحترام للدستور واتفاق الطائف واستكمال تطبيقه. والتشديد على التمسك بدولة القانون والنظام، واحترام الشرعيتين العربية والدولية، والإقبال على الالتزام بتطبيق القوانين والبرامج الإصلاحية المعروفة والمودعة لللأسف في الأدراج، وكذلك ممارسة الجهد والعمل الدؤوب من أجل ترشيد الإنفاق وتعزيز الإيرادات في الموازنة العامة ولدى الخزينة، وبالتالي العمل من أجل خفض العجز السنوي المحقق في الموازنة والخزينة اللبنانية. كذلك من خلال العمل على ترشيق حجم الدولة وتعزيز قدرتها الإشرافية على الدور المبادر للقطاع الخاص اللبناني والعربي.

والتزايد في حجم الديون العامة بالعالم مشكلة عالمية لدى جميع الدول، وهو يحصل بسبب استمرار وتزايد حجم العجوزات المحققة لدى معظم الدول، وهو أمر مقلق للغاية، ولاسيما ما يحصل لدى العديد من الدول النامية التي تعاني من تعاظم المديونية لديها ومن أعباء الكلفة العالية لخدمتها، الأمر الذي يهدّد الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني في تلك الدول.

وذلك يقتضي جهداً دولياً كبيراً للدفع باتجاه إيجاد حلول مستدامة يجري التعاون على أساسها مع الدول النامية لمساعدتها اقتصادياً ومالياً وتنظيمياً، والتي عليها بالمقابل بذل جهود كبيرة ومثابرة للتقدم على مسارات تحقيق الإصلاح الحقيقي السياسي والاقتصادي والإداري المنشود، بما يمكنها من الخروج من ضائقة الدين العام، والتخفف من كلفته العالية، وبما يسهم أيضاً في تعزيز مستويات النمو والتنمية لديها، وبالتالي بما يعزّز الاستقرار السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي فيها. ويكون ذلك عبر تشجيع الاستثمار المباشر في هذه الدول النامية لإيجاد المزيد من فرص العمل الجديدة.

-  ماهي انعكاسات الحرب في غزة على أسواق النفط والغاز؟

استمرار الحرب في غزة له تأثيرات سلبية عميقة حتماً على مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة والعالم، وله أيضاً تأثيراته وتداعياته السلبية والمقلقة على الملاحة في البحر الأحمر، وبالتالي على سلاسل الإمداد الدولية المتشابكة، وهو ما أدَّى ويؤدي إلى امتناع العديد من السعي عن عبور قناة السويس. وفي المحصلة، إلى ارتفاع كلفة الشحن والتأمين، وإلى تأثيرات وضغوط تضخمية.

ليس من الثابت حتى الآن وجود تلك الأحجام من الاحتياطات المؤكَّدة للنفط والغاز في شرق البحر المتوسط

أما بالنسبة لموضوع الغاز في المتوسط، والقول بأنّ ما يجري الآن من مواجهات وحروب في المنطقة يعود إلى التنافس على ملكية مكامن النفط والغاز المحتملة شرقي المتوسط هو باعتقادي أمرٌ فيه الكثير من المبالغات، فليس من الثابت حتى الآن وجود تلك الأحجام من الاحتياطات المؤكَّدة للنفط والغاز في شرق البحر المتوسط، وإلى أن يجري التثبت من ذلك، فلكل حادث حديث، وبالتالي لا داعي الآن لتضخيم التوقعات لدى المواطنين، ولاسيما في لبنان والالتهاء بها عن القيام بالإصلاحات المنشودة.

الدوافع الحقيقية للصراع في الضفة الغربية وغزة سياسية ووطنية، وهي أساساً من أجل استعادة حقوق الفلسطينيين المهدورة، وللحؤول دون تصفية القضية الفلسطينية، ومن دون اعتماد حلٍّ عادلٍ ودائم لها.

وقد حدث طوفان الأقصى ليبرهن أنَّ القضية الفلسطينية المحقة ليست قابلة للتصفية من دون إيجاد حلٍّ عادل وشامل للفلسطينيين في أن يكون لهم وطنهم ودولتهم المستقلة.

- برأيك ، ماحدود انعكاسات الاعتداءات في البحر الأحمر على مستقبل التجارة العالمية؟

ما يجري أمر خطير للغاية وتأثيراته كبيرة جداً على السلم الدولي وعلى حجم وانسياب التجارة العالمية وكلفة النقل والتأمين، وبالتالي على استقرار سلاسل الإمداد ومستويات الأسعار ومعدلات التضخم في العالم، وبرأيي لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر هكذا.

وتأتي أزْمة سلامة الملاحة في البحر الأحمر لتذكّر بضرورة توفير المسؤولية والتعاون المشترك لحمايتها، وتحديداً من قبل الدول التي تؤدي دوراً كبيراً في حجم التجارة العالمية.

إنَّ ما يجري في المنطقة العربية من اختلالات وصراعات يعود أيضاً وفي جذوره إلى الأخطاء والاجتهادات الخاطئة التي ارتكبتها الإدارة الأميركية على مدى عدّة عقود ماضية، بما خص علاقتها الملتبسة مع إيران، وكذلك بسبب تقاعسها عن الإسهام الفعلي في التوصل إلى حلول عادلة ومستدامة للمشكلات التي تعاني منها هذه المنطقة، وهذا ما أدّى عملياً إلى السماح لإيران بالسيطرة على العراق وسوريا ولبنان واليمن عبر أذرعها المختلفة بما أصبح يشكل تهديداً للاستقرار الإقليمي، وكذلك الاستقرار الداخلي في تلك البلدان، والذي أسهم بدوره في إطلاق شياطين التطرف والإرهاب في المنطقة العربية ككل.

هذا علماً أنّ جذور المشكلة الأساس التي نشهدها الآن في غزة والضفة الغربية لا تعود فقط إلى السابع من أكتوبر 2023، بل إلى تاريخ حافل من الانقلابات التي لا تزال تمارسها إسرائيل على مدى عقود عديدة ماضية، حيث لا تزال ترفض التقيّد بالقوانين والقرارات الدولية ذات الصلة في المنطقة، وبما يحول دون إنصاف الشعب الفلسطيني، ودون تحقيق السلم والازدهار المنشود في المنطقة العربية.

- لماذا تتأخر جهود تعزيز التجارة البينية بين الدول العربية؟

هناك مشكلة عربية مستمرة ناتجة عن القصور والتقصير عن تعزيز العمل العربي المشترك، والتقاعس عن دعم جهود التكامل العربي والتعاون العربي بين الاقتصادات العربية. كذلك بسبب عدم المبادرة إلى تعزيز التجارة البينية والاعتماد المتبادل بين الدول العربية.

هناك مشكلة عربية مستمرة ناتجة عن القصور والتقصير عن تعزيز العمل العربي المشترك، والتقاعس عن دعم جهود التكامل العربي

ويكفي هنا إيراد مثل صادم متمثل في استمرار التوتر في العلاقات ما بين المغرب والجزائر، وحيث تبين جميع الدراسات أن فتح الطريق وتسهيل التواصل بين البلدين كفيل بأن يزيد حجم الناتج المحلي في دول المغرب العربي الثلاث بنسبة 2% سنوياً على الأقل.. فكيف إذا نظرنا إلى ما أصبح عليه حال الدول العربية الأخرى التي باتت تعاني من مشكلات كبرى وعلى أكثر من صعيد بما أصبح يحول دون الاسهام في تعزيز التعاون الاقتصادي والاعتماد المتبادل بين كافة الأقطار العربية، والذي يعود على جميع الدول والشعوب العربية بالازدهار والاستقرار.

المعضلة الكأداء والمستمرة في العالم العربي تتعلق بالاستعصاءات لدى كثير من الدول العربية على القيام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والمالية والإدارية والتعليمية الواجب اعتمادها وتطبيقها لمواجهة التحديات الحالية والمرتقبة التي تعاني منها المنطقة العربية من الخليج إلى المحيط.

Related Stories

No stories found.
إرم الاقتصادية
www.erembusiness.com