ولا تزال بعض البنوك المركزية الأخرى تضع هذه الخطوة قيد التجربة، ومنها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي أطلق برنامجا تجريبيا للدولار الرقمي لمدة قاربت الثلاثة أشهر، بالإضافة إلى بنك اليابان الذي أطلق معاملات تجريبية للين الرقمي بدءا من منتصف العام الجاري وبناء على نتائج هذه التجربة، سيقرر المركزي الياباني إذا ما كان سيصدر عملة رقمية بحلول عام 2026 أم لا.
ومن بين أحدث البنوك المركزية التي تدرس إصدار عملة رقمية خاصة بها، البنك المركزي المصري، والذي يدرس حاليا إصدار "الجنيه الرقمي" وذلك بالتعاون مع مؤسسات دولية منها صندوق النقد والبنك الدوليين، وذلك سعيا منه لتوسيع نطاق المدفوعات الإلكترونية الفورية بين الأفراد والشركات في إطار إستراتيجية شاملة للتحول الكامل إلى الاقتصاد الرقمي.
ويهدف البنك المركزي المصري من خطوة إصدار "الجنيه الرقمي" إلى المساهمة في خفض تكلفة التحويلات الدولية وتيسير الوصول للخدمات المالية بشكل عام، فضلا عن تعزيز فاعلية أنظمة الدفع المحلية ودعم المنافسة وتحسين فرص الحصول على القروض وزيادة كفاءة المدفوعات وخفض تكلفة المعاملات.
يقول سمير فواز، الخبير الاقتصادي، ومحلل أسواق المال، في تصريحات لـ "إرم الاقتصادية"، إنه نظرا لتحول العالم للعمل رقميا بشكل يتزايد يوما بعد يوم، فإن الدولة المصرية في حاجة إلى تحديث نظام الدفع ليصبح رقميا، موضحا أن تراجع استخدام "الكاش" داخل البلاد والاعتماد أكثر على الدفع الإلكتروني زاد من فرص نجاح إصدار "الجنيه الرقمي".
وأضاف أن الدولة لديها استراتيجية محددة لتقليل التعامل بالكاش كلما أمكن، لافتا إلى أن هذه الإستراتيجية تتضمن قرار الحكومة بوقف التعاملات المالية النقدية داخل المصالح الحكومية لأي مبالغ تزيد على 500 جنيه (الدولار يساوي حوالي 31 جنيها في السوق الرسمية)، اعتبارا من يوليو عام 2019، موضحا أن هذه الاستراتيجية تأتي في إطار استكمال خطة الدولة لتحقيق الشمول المالي من خلال ميكنة جميع المعاملات المالية ليتم تحصيلها بشكل إلكتروني والتحول من مجتمع نقدي "كاش" إلى مجتمع إلكتروني، وفي إطار هذا التحول تأتي مساعي الدولة لإصدار عملتها الرقمية الخاصة بها "الجنيه الرقمي".
وأوضح فواز أن دولا كثيرة تتطلع إلى رقمنة عملاتها المحلية لما لها من فوائد، منها تعزيز الشمول المالي، والقضاء على الاقتصاد غير الرسمي ومكافحة العمليات المالية المشبوهة مثل غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، حيث يساعد رقمنة العملة المحلية على إخضاع جميع العمليات لرقابة البنوك المركزية وبالتالي التعرف على كل المعاملات بين مختلف الأفراد والمؤسسات.
الدولة المصرية في حاجة إلى تحديث نظام الدفع ليصبح رقميا.سمير فواز - خبير ومحلل اقتصادي
من جانبه، أكد محمود عبدالرازق، الخبير المصرفي، في تصريحات لـ "إرم الاقتصادية"، أن رقمنة البنك المركزي المصري للجنيه، يأتي في إطار سعي الدولة لرقمنة القطاع المصرفي والاقتصاد ككل، لافتا إلى أن البنك المركزي كان قد قرر التوسع في إنشاء البنوك الرقمية حيث أصدر اشتراطات الترخيص لها ومنها ألا يقل رأس المال المصدر والمدفوع عن ملياري جنيه في حالة ممارسة كافة أعمال البنوك باستثناء تمويل الشركات الكبرى، مع إمكانية تمويل تلك الشركات شريطة زيادة رأس المال إلى 4 مليارات جنيه، وكذلك أن يكون المساهم الأكبر مؤسسة مالية ذات سابقة أعمال في أنشطة مماثلة.
وأضاف عبدالرازق، أن دولة بحجم مصر، (الناتج المحلي الإجمالي لمصر يصل إلى حوالي 470 مليار دولار)، تسعى لرقمنة عملتها المحلية بهدف التوسع في التعاملات الإلكترونية داخل البلاد وتقليل الاعتماد على النقد "الكاش" وذلك في إطار دمج الاقتصاد غير الرسمي والذي تبلغ نسبته، وفق بيانات وزارة التخطيط المصرية لعام 2022، حوالي 50 %، أي نصف ما تنتجه البلاد من السلع والخدمات، وهو ما يتطلب وضع سياقات مختلفة وآليات تمكن الدولة المصرية من الدمج واستيعاب العائد، وهو ما سيمكنها منه "الجنيه الرقمي" الذي سيساعد الدولة على ذلك.
ولفت الخبير المصرفي إلى أن هناك بعدا آخر خلف توجه البنك المركزي المصري لإصدار "الجنيه الرقمي"، حيث يطمح المركزي ليصبح الجنيه الرقمي بديلا عن الأنواع الأخرى من العملات المشفرة التي يعتبرها عالية المخاطر.
وأوضح أن البنوك المركزية عموما، اتجهت للتحول الرقمي كبديل عن الكاش بعد تفشي فيروس كورونا وانتقال الفيروس عبر ملامسة الأسطح الملوثة به وكان من ضمن ذلك العملات الورقية، لافتا إلى أن العملات الرقمية للبنوك المركزية هي استجابة للتغير في نظام المدفوعات والتمويل والتكنولوجيا الجديدة.
يطمح المركزي ليصبح الجنيه الرقمي بديلا عن الأنواع الأخرى من العملات المشفرة.محمود عبدالرازق - خبير مصرفي
وفقا لإحصائية للبنك المركزي المصري أصدرها في أبريل 2023، فقد نما معدل الشمول المالي، أي نسبة المواطنين الذين تزيد أعمارهم على 16 عاما من أصحاب الحسابات البنكية أو المحافظ الإلكترونية أو البطاقات مسبقة الدفع، بنسبة 147% بين عامي 2016 و2022، ليصل إلى 42.3 مليون شخص، بما يعادل 64.8% من إجمالي المواطنين في الفئة العمرية 16 عاما أو أكثر، والبالغ عددهم 65.4 مليون.
وأظهرت المؤشرات، بحسب البنك، حدوث طفرة في عدد السيدات اللاتي يمتلكن حسابات مالية، حيث بلغ عددهن 18.3 مليون سيدة في نهاية 2022، بمعدل نمو 210% مقارنة بعام 2016. كما زاد عدد البطاقات مسبقة الدفع إلى 43.8 ألف بطاقة لكل 100 ألف مواطن، بمعدل نمو 31% خلال الفترة من 2020 إلى 2022، فيما بلغ عدد محافظ الهاتف المحمول 46.5 ألف محفظة لكل 100 ألف مواطن، بمعدل نمو 54% خلال الفترة نفسها.
وتشير المؤشرات أيضًا إلى تطور أعداد نقاط الإتاحة المالية، والتي تشمل كل من فروع البنوك، والبريد المصري، ومؤسسات التمويل متناهي الصغر، بالإضافة إلى ماكينات الصراف الآلي، ونقاط البيع الإلكترونية، ومقدمي خدمات الدفع، لتصل إلى 1214 نقطة لكل 100 ألف مواطن بمعدل نمو 107% خلال الفترة من 2020 إلى 2022.
ويعمل البنك المركزي على تعزيز خططه لدفع الشمول المالي حتى عام 2025 من خلال إدخال تعديلات في الإطار القانوني والتنظيمي، ودفع النمو في التكنولوجيا المالية والبنية التحتية المالية الرقمية، وضمان توافر التمويل المستدام وبيئة اقتصادية مستقرة.
وأطلق البنك استراتيجية للشمول المالي لأول مرة في عام 2019، وتتركز على أربعة محاور رئيسية تشمل، تمكين المستهلك وحماية حقوقه من خلال زيادة الوعي حول الشمول المالي، وتنويع المنتجات المالية المصرفية وغير المصرفية، ودعم قطاع المشاريع المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، وتوسيع استخدام حلول التكنولوجيا المالية، بحسب التقرير.
وأقرت الدولة المصرية إستراتيجية للتنمية المستدامة هي "رؤية مصر 2030"، وتهدف إلى أن يصبح الاقتصاد المصري أكثر انضباطا وتميزا بحلول عام 2030 عبر نمو احتوائي مستدام واستقرار أوضاع الاقتصاد الكلي وأن يكون لاعبا فاعلا في الاقتصاد العالمي.
وتوقعت إحصائية صادرة عن "ستاتيستا"، وهي شركة ألمانية متخصصة في بيانات السوق والمستهلكين، أن يبلغ حجم المدفوعات الرقمية في مصر حوالي 22 مليار دولار بحلول عام 2027.