في وقت تزداد فيه التوترات التجارية العالمية، وتحتدم المنافسة بين القوى الاقتصادية الكبرى، يجد الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه في مواجهة اختبار جديد لنهجه التصعيدي في السياسة التجارية، الذي تعهّد من خلاله بإعادة التوازن إلى ميزان التجارة الأميركية وفرض ما سمّاه "العدالة التبادلية" مع الشركاء الدوليين.
لكن الواقع العملي يبدو أكثر تعقيداً، حيث تصطدم هذه الوعود بشبكة تفاوضية شائكة ومهلة زمنية بات من الصعب احترامها.
وبحسب تقرير نشرته وكالة «بلومبرغ»، فإن إدارة ترامب اضطرت إلى تأجيل تنفيذ الرسوم الجمركية التي كان من المقرر فرضها في الثاني من أبريل حتى الأول من أغسطس، وذلك في ظل تعثّر إبرام الاتفاقيات التجارية المنتظرة، والاكتفاء ببعض «أطر العمل العامة» دون بلورة اتفاقات نهائية حتى الآن.
ويأتي هذا التأجيل في محاولة لإفساح المجال أمام الدول المعنية لتقديم عروضها النهائية، لكنه في الوقت ذاته يُعد اعترافا بأن الإدارة الأميركية كانت متفائلة أكثر من اللازم بقدرتها على إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي خلال مهلة 90 يومًا فقط.
وقالت كيلي آن شو الشريكة في شركة «آكين غامب» والمستشارة التجارية السابقة في إدارة ترامب، إن هذا التأجيل «يبدو وكأنه المحاولة الأخيرة للضغط على الدول»، إلا أنه يعكس أيضاً واقعاً إدارياً صعباً يتمثل في تشتت الفريق التفاوضي وعدم قدرته على إتمام صفقات كبرى في الوقت المحدد.
وتشير مصادر مطّلعة إلى أن مفاوضات متقدمة كانت جارية مع كل من الهند، والاتحاد الأوروبي، وتايوان، مع بداية الأسبوع الجاري، إلا أن التوصّل إلى اختراق حقيقي قبل الموعد النهائي بات أمراً مستبعداً.
ومع ذلك، شهدت الأسواق الآسيوية والأوروبية حالة من الاستقرار، فيما ارتفعت العقود الآجلة للأسهم الأميركية، في ظل إشارات إلى استمرار المحادثات خلال فترة التمديد.
وشدد تقرير «بلومبرغ» على أن التأجيل كان مدفوعاً أيضا باعتبارات داخلية، حيث ساهم التراجع الحاد في أسواق المال وضغوط مستشاريه الاقتصاديين، في إقناع ترامب بضرورة منح الدول المعنية وقتاً إضافياً للتفاوض، في وقت لم يبدُ فيه فريقه التجاري مستعداً لإدارة معارك متزامنة مع شركاء متعددين.
ورغم موقفه المتشدد، أبقى ترامب الباب موارباً حين سُئل عمّا إذا كان الموعد الجديد نهائياً، قائلاً: «إنه موعد نهائي، لكن ليس بنسبة 100%»، في إشارة إلى احتمال تمديده مجدداً إذا ما لاحت فرص تفاوض جديدة.
بدورهم، يخشى مراقبون أن تؤدي التراجعات المتكررة إلى إضعاف صورة ترامب كقائد حاسم، خصوصاً بعد أن أطلق عليه لقب (TACO)، اختصاراً لعبارة (Trump Always Chickens Out)، «ترامب دائماً يتراجع»، في أوساط وول ستريت؛ وذلك بسبب تردده في فرض الرسوم بعد الإعلان عنها أكثر من مرة.
من جانبهم، يشعر المستوردون الأميركيون بالقلق من التأثير المباشر لهذه السياسة المتذبذبة على المستهلكين.
وقال مات بريست، الرئيس التنفيذي لرابطة «موزعي وتجار الأحذية في أميركا»، في مقابلة مع «بلومبرغ»: «رغم أننا حصلنا على فترة راحة مؤقتة، فإن الرسوم لا تزال مرتفعة، وستؤدي إلى رفع الأسعار على المستهلكين، مضيفاً: «نحن بحاجة إلى رؤية الصورة الكاملة قبل اتخاذ قرارات التوريد التي تُعدّ حيوية لأعمالنا».
وفي محاولة لتأكيد جدّية الإدارة الأميركية، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت، إن التأجيل لا يعني التراجع عن فرض الرسوم، مضيفة: «الدول تأخذ رسائل الرئيس على محمل الجد، ولهذا فإن هاتفه لا يتوقف عن الرنين من قِبل قادة العالم الذين يسعون للتوصل إلى اتفاقات، ونحن نعمل على ضمان أن تكون هذه الاتفاقيات في مصلحة الشعب الأميركي».
وتُصر الإدارة على أن الموعد الجديد لبدء تطبيق الرسوم سيكون في الأول من أغسطس، غير أن ذلك يتطلب من وكالة «الجمارك وحماية الحدود» الأميركية إعادة برمجة أنظمتها التقنية قبل هذا الموعد بمدة لا تقل عن أسبوع، لتتمكن من تنفيذ السياسة الجديدة.
أما على صعيد العلاقات مع الصين، فيواجه ترامب استحقاقاً مهماً في منتصف أغسطس، حين يُحتمل أن تعود الرسوم على الواردات الصينية إلى مستوى 145%، إذا لم يتم التوصّل إلى اتفاق جديد.
وبينما كانت إدارة ترامب قد وصفت سابقاً الإطار التفاوضي مع بكين بأنه «انتصار لأميركا»، فإن الواقع كشف عن تعقيدات أكبر، ولا سيما بعد أن استخدمت الصين نفوذها في قطاع المعادن النادرة كورقة ضغط.
ويرى ديريك سيسرز الخبير في الشأن الصيني لدى معهد «أميركان إنتربرايز»، أن ترامب يستمتع بتكرار هذا النوع من المعارك، قائلاً: «ترامب يحب الضجيج، ويحب الأضواء، وسيُبرم ما يكفي من الاتفاقات مع شركاء أصغر ليبدو الأمر وكأنه انتصار».
لكنه يستدرك: «هذا الأسلوب لا يجدي مع الصين، يمكنه تأجيل المواجهة والتوصّل إلى صفقات ثانوية مع دول أصغر، لكن بكين لن تتنازل بهذه السهولة».
ومع اقتراب موعد الاستحقاقات الجديدة، يبقى مستقبل استراتيجية ترامب التجارية مفتوحاً على كل الاحتمالات، في وقت يزداد فيه القلق في الأسواق، وتتعاظم التحديات أمام صانع القرار الأميركي.