وفي ظل هذه الظروف، يكثر الحديث في الأوساط الاقتصادية عن تعويم جديد للجنيه المصري، بعد عمليات خفض سابقة للعملة أبرزها في نوفمبر 2016، وأكتوبر 2022، ويناير 2023، ما يثير تساؤلات حول تأثير ذلك على الاقتصاد ومستوى المعيشة.
تعود المتاعب الاقتصادية في مصر إلى عدة أسباب بعضها يعود إلى عقود مضت، مثل ضعف التنمية الصناعية على وجه الخصوص، وتحديات التصدير، وكذلك ضعف فرص الاستثمار الأجنبي والمنافسة الاقتصادية داخل مصر، نتيجة تقييم الجنيه بأكثر من قيمته الحقيقية.
فضلا عن كل ذلك، ارتفعت فاتورة الاقتراض في العقد الماضي، ما خلف تراكما ثقيلا في الديون الخارجية على مصر، وبالتالي بدأ الدائنون الأجانب تجنب إقراض مصر، فاضطرت الحكومة لتمويل العجز المتزايد عن طريق الاقتراض محليا رغم ارتفاع أسعار الفائدة، مما يؤدي إلى عجز أكبر، ونتيجة لذلك، بالإضافة إلى التوسع في المعروض النقدي، انخفضت قيمة العملة وارتفع التضخم.
وانكمش الاستثمار الأجنبي، خارج قطاع النفط والغاز، كما تراجعت تحويلات المصريين بالخارج في 2022-2023 بنسبة 30% إلى 22 مليار دولار أميركي بسبب بسعر الصرف الرسمي المبالغ في تقديره.
وفي خطوات حكومية، تسعى مصر للسيطرة على العجز من خلال رفع أسعار السلع والخدمات المدعمة، لكن التضخم قضى على جزء كبير من المكاسب، وكان من المفترض أن تؤدي زيادة رسوم عبور قناة السويس وعائدات السياحة دورا مهما، لكن الحرب في قطاع غزة والهجمات الحوثية في البحر الأحمر أعاقت ذلك.
وتواجه الحكومة المصرية تحديات خارجية أخرى تتمثل في الحرب في أوكرانيا وتأثر الاقتصاد العالمي، فضلا عن عوامل داخلية مثل النمو السكاني السريع.
ووفقا للبنك المركزي المصري، سجل الدين الخارجي لمصر نحو 164.7 مليار دولار، بنهاية العام المالي الماضي، بانخفاض عن 165.4 مليار دولار في مارس الماضي، لكنه ما يزال أعلى بنحو 9 مليارات دولار من الرقم المسجل بنهاية العام المالي 2021/2022.
ويتعين على مصر سداد نحو 32.8 مليار دولار أميركي -تعادل نحو 20% من إجمالي الديون الخارجية للبلاد- ديونا متوسطة وطويلة الأجل مستحقة خلال 2024.
كما يجب على مصر سداد نحو 9.5 مليارات دولار أخرى من أقساط الديون والفوائد قصيرة الأجل خلال النصف الأول من 2024.
لكن ليست كل الأرقام سلبية، فما يمثل بارقة أمل هو إعلان البنك المركزي المصري نهاية ديسمبر 2023 أن صافى الاحتياطيات الأجنبية ارتفع إلى 35.219 مليار دولار، وهي المرة السادسة عشرة على التوالي التي يزيد فيها الاحتياطي رغم كل هذه الأزمات.
وتستورد مصر بما يعادل 7 مليارات دولار شهريًا في المتوسط من السلع والمنتجات من الخارج، بإجمالي سنوي يقدر بأكثر من 70 مليار دولار.
وعليه، يغطي المتوسط الحالي للاحتياطي من النقد الأجنبي نحو 5 أشهر من الواردات السلعية لمصر، وهو ما يزيد على المتوسط العالمي البالغ نحو 3 أشهر من الواردات السلعية، بما يؤمن احتياجات مصر من السلع الأساسية والاستراتيجية.
وبالإضافة إلى ارتفاع الاحتياطي، تشير بيانات المركزي المصري إلى تراجع معدل التضخم الأساسي إلى 35.9% في نوفمبر 2023 من 38.1% في أكتوبر 2023.
لكن القاهرة تعيش مأزقا كبيرا يتمثل في فرق السعر بين الدولار في البنك والسوق السوداء، فبينما يبلغ سعر الصرف في البنوك 30.8414 في حالة الشراء، و 30.9386 في حالة البيع، وفقا للموقع الرسمي للبنك المركزي المصري، وصل في السوق الموازية، 53.60، فيما بلغ أعلى سعر للبيع نحو 54.15 جنيه مصري، هذا الفرق بين السعرين، الرسمي والموازي، يغذي التكهنات بتعويم جديد.
ويعبر مصطلح "سعر الصرف العائم" عن نظام يجري فيه تحديد سعر العملة لدولة ما على أساس العرض والطلب بالنسبة للعملات الأخرى، وهذا على النقيض من سعر الصرف الثابت، الذي تحدد فيه الحكومة السعر.
وبداية، تخفيض قيمة العملة هو سياسة اقتصادية تتبعها حكومة بلد ما لإضعاف قيمة عملتها، وظهرت تلك العملية منذ أن تخلت العملات العالمية عن معيار الذهب وسمحت لأسعار صرفها بالتعويم بحرية مقابل بعضها البعض.
وإجمالا، تلجأ البلدان لتلك العملية لتعزيز صادراتها، وتقليص العجز التجاري، وخفض أعباء الديون السيادية.
وبتخفيض العملة، تزداد الصادرات وتنخفض الواردات بسبب انخفاض تكلفة الصادرات وزيادة تكلفة الواردات، ويؤدي هذا إلى تحسين ميزان المدفوعات مع زيادة الصادرات وانخفاض الواردات، مما يؤدي إلى تقلص العجز التجاري.
لكن هناك جانبا سلبيا محتمل لهذا المنطق، إذ يؤدي انخفاض قيمة العملة إلى زيادة عبء ديون القروض المقومة بالعملة الأجنبية عند تسعيرها بالعملة المحلية، وهذه مشكلة كبيرة بالنسبة للدول النامية، وتصبح خدمة هذه الديون الخارجية أكثر صعوبة، مما يقلل من ثقة الناس في عملتهم المحلية.
وينقسم التعويم إلى نوعين، التعويم الخالص، أو كما يطلق عليه التعويم الحر، ويعبر عن الحرية التامة لتغيير وتحديد سعر الصرف وفق آلية العرض والطلب وقوى السوق دون تدخل الدولة.
والتعويم الموجَّه، ويطلق عليه التعويم المُدار، وهو حرية تحديد سعر الصرف وفق آلية العرض والطلب وقوى السوق، لكن يتدخل البنك المركزي للدولة عند الحاجة إلى توجيه سعر الصرف في اتجاهات محددة وفقا لبعض المؤشرات.
في النهاية نستطيع أن نقول التعويم إجراء تصحيحي، قد يكون مؤلمًا، ولكنه كـ"الدواء المر"، يضر مرحليًا إلا أنه نافع في نهاية المطاف حال اتخذ في الوقت المناسب ومع توافر الآليات لتطبيقه.