ألقى رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، خطابه في المؤتمر السنوي للبنوك المركزية في جاكسون هول الأخير، حيث وجد نفسه مجدداً أمام المعضلة القديمة: محاربة التضخم من جهة، والحفاظ على قوة سوق العمل من جهة أخرى.
ففي عام 2022، استلهم باول نهج رئيس الفيدرالي الراحل بول فولكر، متعهداً بكبح التضخم مهما كلف الأمر من تباطؤ اقتصادي. أما في العام الماضي، فدافع عن سوق العمل واستخدم لغة تمهّد لخفض الفائدة، وسط مؤشرات على ارتفاع البطالة. والجمعة المقبلة، وفي ما قد يكون آخر خطاب له في هذا المحفل قبل انتهاء ولايته في مايو المقبل، يتعين عليه التوفيق بين هذين الهدفين في وقت تتجه فيه البيانات الاقتصادية نحو مسارات متباينة.
ينقسم مسؤولو الفيدرالي بين فريق يحذّر من مخاطر تجدد التضخم، وآخر يرى أن الخطر الأكبر يكمن في ضعف التوظيف. أما المستثمرون، ومعهم إدارة ترامب، فيتوقعون خفضاً للفائدة في اجتماع سبتمبر، أياً كانت البيانات. لكن السؤال الأهم لا يتعلق بالخفض نفسه بقدر ما يتعلق بالطريقة التي سيقدّم بها باول خطته المقبلة: هل ستكون خطوة وحيدة، بداية دورة تيسيرية جديدة، أم مجرد وقفة تكتيكية؟.
يأتي خطاب باول بعد ثماني سنوات اتسمت باضطرابات هائلة: جائحة عالمية استوجبت سياسة نقدية استثنائية، ثم موجة تضخمية غير مسبوقة منذ عقود، قابلها الفيدرالي بأسرع دورة رفع للفائدة في تاريخه، إضافة إلى ضغوط سياسية وانتقادات شخصية حادة من الرئيس دونالد ترامب.
اليوم، يطرح بعض الخبراء أن باول قد يستلهم نهج رئيس الفيدرالي الأسبق آلان غرينسبان، الذي اعتاد في التسعينيات على النظر ما وراء الضغوط التضخمية المؤقتة، مراهناً على نمو الإنتاجية لتعويضها. وهو نهج يتوافق مع الدعوات الحالية لتخفيض الفائدة تدريجياً لإعادة السياسة النقدية نحو منطقة محايدة قريبة من 3%، مقارنةً بالمستوى الحالي البالغ 4.25% – 4.5%.
رغم تباطؤ النمو الاقتصادي إلى نحو 1%، يظل سوق العمل مستقراً، فيما بقي التضخم أعلى من مستهدف 2% بنحو نقطة مئوية، مع مؤشرات إلى إمكانية عودته للصعود. وفي المقابل، يرى مسؤولون في إدارة ترامب أن خطر التضخم محدود ويمكن تعويضه عبر إصلاحات تنظيمية وزيادة الإنتاجية.
لكن مراجعات حديثة لبيانات سوق العمل أظهرت أن وتيرة خلق الوظائف في الأشهر الماضية كانت أضعف بكثير مما اعتُقد سابقاً، ما يعزز موقف دعاة خفض الفائدة الفوري مثل كريستوفر والر، أحد أبرز المرشحين لخلافة باول.
بين ضغوط الإدارة الأميركية، وانقسام داخل الفيدرالي، وتباين المؤشرات الاقتصادية، يجد باول نفسه أمام معادلة صعبة. فإما أن يمضي في خفض الفائدة لإسناد الاقتصاد، أو يتمسك بالحذر خوفاً من انفلات الأسعار. وكما قال رئيس الاحتياطي الفيدرالي في ريتشموند، توماس باركين: «الضباب بدأ يتبدد». لكن القرار النهائي سيبقى بيد باول، الذي اعتاد على البقاء رهين البيانات حتى اللحظة الأخيرة.