logo
اقتصاد

150 دولاراً شهرياً للمنزل.. «اقتصاد صهاريج المياه» يرهق عائلات بيروت

يعقوبيان: سوء إدارة القطاع مستمر.. والسدود «لتعبئة الجيوب»

150 دولاراً شهرياً للمنزل.. «اقتصاد صهاريج المياه» يرهق عائلات بيروت
صهريج مياه لتعبئة خزانات أحد المباني السكنية في العاصمة اللبنانية بيروت، يوم 3 يوليو 2025.المصدر: (أ ف ب)
تاريخ النشر:28 يوليو 2025, 03:35 ص

لم تعد أزمة المياه في لبنان مجرد عنوان للمعاناة اليومية التي يعيشها المواطنون، بل تحوّلت إلى نزيف اقتصادي متعدد الأوجه يهدد بانهيار قطاعات حيوية، ويقوّض ما تبقى من قدرة الدولة على تقديم أبسط الخدمات.

في بلد عُرف تاريخياً بأنه «خزان مياه الشرق»، تجتمع اليوم تداعيات الجفاف الطبيعي مع عقود من سوء الإدارة، لتخلق واقعاً مأساوياً، يُهدر معه أكثر من نصف المياه في شبكات مهترئة، بينما يزدهر اقتصاد موازٍ وغير منظّم لبيع المياه عبر الصهاريج، تاركاً المواطن والقطاعات الإنتاجية أمام خيارين: إما الرضوخ للابتزاز، أو العطش.

لبنان، البلد الشهير بغزارة مياهه وأنهاره، يعيش اليوم شحّاً غير مسبوق. وبحسب هيئة الأرصاد الجوية، فقد شهد العام الماضي فصلاً شتوياً جافاً بنسبة انخفاض في معدل هطول الأمطار تجاوزت 70% مقارنةً بالأعوام السابقة، ما أدى إلى جفاف الينابيع والأنهار، لا سيما في أماكن مثل بحيرة القرعون وسد الليطاني اللذين وصلا إلى أدنى مستوياتهما منذ عقود. كما هبط إنتاج محطات الطاقة المائية من 100 ميغاواط إلى أقل من 12 ميغاواط، الأمر الذي زاد من حدة أزمة الكهرباء.

أخبار ذات صلة

الجفاف يضرب لبنان.. و«الزراعة» تتحصن ببركٍ ذكية وخطة خضراء

الجفاف يضرب لبنان.. و«الزراعة» تتحصن ببركٍ ذكية وخطة خضراء

جفاف طبيعي وإهمال بشري

السبب الأعمق للأزمة ليس المناخ وحده، بل عقود من الإهمال وسوء الإدارة، وفقاً للعضو في البرلمان اللبناني بولا يعقوبيان، التي قالت في حديث إلى «إرم بزنس»: «هناك تقصير مستمر في الاستثمار بالبنية التحتية، واستهتار فاضح في إدارة هذا القطاع الحيوي؛ ما أدى إلى حرمان الناس من حقهم الأساسي في المياه، وفتح الباب أمام السوق السوداء وجمهورية السيتيرنات (الصهاريج)».

بحسب آخر التقديرات، فإن 50% من المياه في الشبكة العامة تُفقد بسبب التسربات، وهو رقم لا يمثل هدراً للموارد الطبيعية فحسب، بل «فشل ذريع في إدارة الأصول الرأسمالية والبنية التحتية للدولة». 

هذا «الهدر الممنهج» بحسب يعقوبيان، هو الذي فتح الباب على مصراعيه لنمو «اقتصاد الصهاريج» الذي قُدّر حجمه بنحو 80 مليون دولار سنوياً حتى قبل عام 2019، لتقفز الأسعار لاحقاً بنحو ستة أضعاف. قالت يعقوبيان إن هذا التحوّل لم يخلق مجرد سوق سوداء، بل أسس لنظام اقتصادي طفيلي ينمو على حساب سوء إدارة القطاع من قبل الدولة، حيث يتم نقل الثروة مباشرة من جيوب المواطنين المنهكين إلى جيوب الموردين غير الخاضعين لأي رقابة ضريبية أو صحية. 

في الوقت ذاته، تجسدت ذروة غياب التخزين الاستراتيجي للمياه وسوء تخصيص الموارد، في مشاريع السدود الكبرى مثل «سد بسري»، التي استهلكت أموالاً طائلة دون أن تحقق المردود المأمول، لتتحول إلى نُصب تذكارية للهدر بدلاً من كونها حلولاً استراتيجية وفق تعبير يعقوبيان.. «قلتها سابقاً.. بلبنان بيحبّوا السدود لأنها بتعبّي الجيوب».

النائب في البرلمان اللبناني بولا يعقوبيان.
النائب في البرلمان اللبناني بولا يعقوبيان. المصدر: حساب يعقوبيان على منصة «إكس».

صوت المواطن بين الاستنزاف واليأس

تروي شهادات المواطنين في بيروت تفاصيل المعاناة اليومية مع شح المياه. يقول المواطن مجدي الجوهري، لـ«إرم بزنس»، إن توزيع المياه لم يعد عادلاً؛ إذ يحصل السكان على المياه لساعات معدودة تصل في أقصاها إلى 4 ساعات حسب حصة كل حي أو شارع، فيما البنية التحتية المتهالكة بسبب اهتراء الأنابيب تضيّع ما يصل من المياه قبل الوصول إلى المنازل، إذ تغرق الشوارع وتعطش المباني والمنازل.

أمام هذا الواقع، لم يجد كثير من الأسر حلاً سوى تقـليص الاستهلاك وشراء المياه أو الاعتماد على مياه غير مراقبة من حيث الجودة. أصوات المواطنين ترتفع مطالبة بالحق في المياه والخدمات، بينما تعجز الدولة عن سن تسعير رسمي أو رقابة على القطاع الخاص.

إذاً، كيف يتدبر أبناء بيروت أمورهم؟ يقول مجدي إن هناك تجارة رائجة جداً عن طريق الصهاريج، إذ يفرض أصحابها أسعاراً تصل إلى 10-15 دولاراً لقاء تعبئة صغيرة، واستهلاك اليوم في المتوسط بين 3 إلى 4 براميل أي حوالي 4 إلى 5 دولارات. ويضيف: «في المحصلة، تدفع العائلات نحو 150 دولاراً ثمناً للمياه شهرياً، ومثلها للكهرباء التي نشترك فيها مع أصحاب المولدات الكهربائية في الأحياء».

من جهتها، تجيب المواطنة اللبنانية سارة الكعكي عن أسئلة «إرم بزنس» بعصبية تتحول إلى حد البكاء من معاناة لا قدرة لها على تجاوزها، كون زوجها لا يعمل وبالكاد يطعم أولاده ويؤمن بعض احتياجاتهم، ولا يتعدى راتبه 300 دولار، «فكيف يدفع ثمن المياه والكهرباء ويؤمن باقي احتياجاتنا الشهرية؟».

هذه الشهادات ليست مجرد شكاوى، بل هي مؤشر اقتصادي دقيق على انهيار العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن. تقول يعقوبيان إن الرقم المذكور (150 دولاراً شهرياً) يمثل «ضريبة فشل غير رسمية تفرضها الدولة بإهمالها على مواطنيها». والسبب يعود لأنه يُقتطع مباشرة من دخل الأسرة، ما يؤدي إلى تآكل حاد في قدرتها الشرائية ويقلص إنفاقها على بنود أساسية أخرى كالتعليم والصحة والغذاء. يعني هذا تحويل مورد عام أساسي (المياه) إلى سلعة باهظة الثمن خاضعة لمنطق السوق غير المنظم.

وبسؤالها حول آليات الرقابة ورفع الأسعار؟ تجيب يعقوبيان: « حتى تاريخه، لا توجد لدى وزارة الطاقة والمياه آليات واضحة لرصد أو ضبط تسعير المياه عبر الصهاريج، رغم ما أعلنت عنه الحكومة من خطط طارئة أثناء الصيف». وتضيف أن «الوزير جو الصدي (وزير الطاقة والمياه اللبناني) اتخذ خطوات أولية بهدف الحد من تدخل الصهاريج المدعومة سياسياً، لكنه لم يُصدر حتى الآن تعرفة واضحة أو تعليمات رسمية ملزمة، «وما دامت الجهات المعنية عاجزة تبقى جمهوريّة السيتيرنات سيّدة الموقف، وتبقى السوق السوداء هي البديل الفعلي للدولة».

أخبار ذات صلة

«الصناعة اللبنانية» لـ«إرم بزنس»: تعافي 90% من المصانع المتضررة بالحرب

«الصناعة اللبنانية» لـ«إرم بزنس»: تعافي 90% من المصانع المتضررة بالحرب

الزراعة والطاقة في مهب الجفاف

تمتد التداعيات الاقتصادية لتضرب عصب القطاعات الإنتاجية، محوّلة أزمة المياه إلى محرك للتضخم ومعول هدم للأمن الغذائي والطاقوي. في قطاع الطاقة، أدى انخفاض منسوب المياه إلى هبوط إنتاج محطات الطاقة الكهرومائية من 100 ميغاواط إلى أقل من 12 ميغاواط؛ ما فاقم أزمة الكهرباء المزمنة وزاد من الاعتماد على المولدات الخاصة المكلفة والملوثة للبيئة. 

أما في قطاع الزراعة، وهو الأكثر حساسية للمياه، فقد أدى الشح إلى تراجع الإنتاجية وارتفاع تكاليف المدخلات، مما أجبر المزارعين إما على التخلي عن أراضيهم أو شراء المياه بأسعار باهظة، لينعكس ذلك مباشرة على أسعار المنتجات الغذائية ويضعف القدرة الشرائية للمواطنين.

وحول وعود الإصلاح، تقول بولا يعقوبيان إنها «كثيرا ما وَضعت خطط طوارئ وتوعية وقرارات مؤقتة بالتنسيق مع البلديات، ولكن التنفيذ غائب أو يقتصر على حلول ورقية مؤقتة».

تخلص يعقوبيان في حديثها إلى أن الحلّ يتطلب «إرادة سياسية وإدارية شفافة لإصلاح البنية التحتية، وتفعيل إدارة القطاع بعيداً عن المحاصصة والزبائنية، وتبنّي خطة وطنية مستدامة تركز على تقليل الهدر، وتحسين التخزين، ورقابة القطاع الخاص، بالتوازي مع دعم الفئات الأكثر هشاشة».

logo
اشترك في نشرتنا الإلكترونية
تابعونا على
تحميل تطبيق الهاتف
جميع الحقوق محفوظة © 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC