في خطوة قد تعيد تشكيل خريطة الطاقة الإقليمية، تتجه الأنظار نحو ليبيا حيث يعتزم مجلس النواب الليبي المصادقة على ترسيم الحدود البحرية مع تركيا.
هذا التحرك، الذي يأتي كرد فعل على منح اليونان تراخيص تنقيب في مناطق متنازع عليها قرب جزيرة كريت، يثير مخاوف جدية من تصاعد التوترات في شرق المتوسط الغني باحتياطيات الغاز الهائلة.
تحتوى منطقة شرق المتوسط، على احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي غير المكتشفة تقدر بنحو 300 تريليون قدم مكعب، وفقاً لدراسات منتدى غاز شرق المتوسط.
يضاف إلى ذلك احتياطيات مؤكدة في حقول عملاقة مثل حقل "ظهر" المصري، الأكبر، باحتياطيات تقدر بنحو 30 تريليون قدم مكعب، وحقل ليفياثان الإسرائيلي حوالي 22 تريليون قدم مكعب، وحقل تمار الإسرائيلي حوالي 10.8 تريليون قدم مكعب، وحقل أفروديت القبرصي بين 6 إلى 8 تريليونات قدم مكعب، وحقل نرجس المصري الذي اكتشفته شركة شيفرون عام 2023، باحتياطيات تقدر بحوالي 3.5 تريليون قدم مكعب، وفق بيانات حكومية.
أما ليبيا، فهي لا تقل أهمية في هذا المشهد، فوفقاً لتقديرات 2024، تمتلك ليبيا أكبر احتياطيات نفط مثبتة في إفريقيا بنحو 50 مليار برميل، مما يضعها في المركز التاسع عالمياً.
كما تملك احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، ويبلغ متوسط إنتاجها النفطي حوالي 1.4 مليون برميل يومياً، مع تذبذبات ناتجة عن الظروف الأمنية والسياسية. أما إنتاجها من الغاز الطبيعي فيصل إلى حوالي 2 مليار قدم مكعب يومياً، ومعظم صادراتها تذهب إلى إيطاليا عبر خط أنابيب «غرين ستريم».
يؤكد المستشار السابق بوزارة النفط الليبية والخبير النفطي أحمد الغابر، أن التعاون بين تركيا وليبيا بشأن الحدود البحرية يعود إلى عام 2019 عندما تم توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين استجابة لحاجات سياسية ملحة، حيث كانت ليبيا تبحث عن دعم قوي في نزاعها مع اليونان حول حدودها البحرية شرقي المتوسط، ورفضت ما اعتبرته تجاوزات يونانية في تنفيذ أعمال استكشافية في منطقة متنازع عليها.
وفي حديثه مع «إرم بزنس»، أوضح أن الاتفاقية منحت ليبيا آفاقاً جديدة للتنقيب عن النفط شرقاً، فيما سعت تركيا لتوسيع نفوذها البحري وفرض وجودها في شرق المتوسط، وهو ما يفسر استمرار الطرفين في التمسك بالاتفاق.
وبحسب الغابر فإن اتفاقية التعاون النفطي الجديدة الموقعة الشهر الماضي بين الجانبين تعكس استمرارية هذه الشراكة، حيث بدأت تركيا فعلياً في تحريك معداتها لتنفيذ أعمال استكشافية في المناطق الحدودية البحرية الليبية، في ظل غطاء قانوني من اتفاق 2019.
ويؤكد الخبير النفطي أن قضية تقاسم الحدود البحرية بين ليبيا واليونان ومصر وتركيا لا تزال شائكة ومعقّدة، لكنها في الوقت ذاته تعكس أهمية البُعد الاستراتيجي للطاقة في إعادة رسم خرائط النفوذ في البحر المتوسط.
بينما يؤكد رئيس منتدى بنغازي للتطوير الاقتصادي والتنمية خالد بوزعكوك، أن المشهد الجيوسياسي في شرق المتوسط يتأثر بشكل مباشر بما وصفه بـ«التحالف الثلاثي» بين قبرص واليونان ومصر، والذي تغذّيه اعتبارات تاريخية أبرزها العداء التقليدي بين تركيا واليونان.
وأضاف بوزعكوك في حديثه مع «إرم بزنس» أن انقسام ليبيا إلى حكومتين أضعف موقفها التفاوضي بشأن حقوقها البحرية ومواردها من الغاز في شرق المتوسط.
لكنه أوضح أن الموقف الليبي شهد توحّداً نادراً عندما أعلنت اليونان طرح عقود استكشاف بحرية قرب جزيرة كريت، إذ أجمعت الحكومتان الليبيتان، في الشرق والغرب، على رفض هذه الخطوة والتنديد بها، خاصة في ظل عدم وجود اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين ليبيا واليونان حتى الآن.
ويشدد بوزعكوك على أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا، الموقعة في عام 2019، تُعد مكسباً استراتيجياً، حيث تمنح ليبيا عمقاً جغرافياً ومساحة بحرية إضافية، وتُعزّز من حقوقها القانونية في مياه المتوسط، ما يمثل فرصة ينبغي استثمارها بجدية.
وأشار إلى وجود مبادرة من قبل حكومة شرق ليبيا لفتح ملف الاتفاقية مع تركيا، تمهيداً لمصادقة مجلس النواب الليبي عليها رسمياً، في ظل مؤشرات على تقارب سياسي وعلاقات اقتصادية متنامية بين الطرفين، يقودها رئيس الحكومة الليبية في الشرق، أسامة حماد.
كما نوّه بوزعكوك إلى أن هذا التقارب تُرجم على الأرض من خلال توقيع عشرات الشركات التركية لعقود إعمار وبناء في شرق ليبيا، إلى جانب خطوة دبلوماسية مهمة تمثلت في افتتاح قنصلية تركية في مدينة بنغازي، وهو ما يعكس تطوراً إيجابياً في العلاقات الثنائية، قد يُمهّد لتعاون أوسع في ملفات استراتيجية، على رأسها الغاز البحري وإعادة الإعمار.
وفي حديثه مع «إرم بزنس»، يرى أيمن عبدالوهاب، الخبير الاقتصادي المتخصص في شؤون الطاقة، أن أي خطوة أحادية الجانب في ترسيم الحدود ستزيد المخاطر الاستثمارية في المنطقة.
وباعتقاد عبدالوهاب فإن الشركات الكبرى تبحث عن الاستقرار القانوني والسياسي، وهذا الصراع قد يؤجل أو يلغي مشاريع استراتيجية تهدف إلى تأمين إمدادات الغاز لأوروبا.
وقد يزيد هذا التحرك حدة الانقسامات في ليبيا نفسها، خاصة إذا ما قوبل برفض من بعض الأطراف الليبية التي ترى فيه تفريطاً في السيادة أو إقحاماً للبلاد في صراعات إقليمية، وفق عبدالوهاب.
ويؤكد أن الحل المستدام يكمن في إطار قانوني دولي واضح ومقبول من جميع الأطراف. وبدون ذلك، ستظل المنطقة ساحة للنزاعات التي تعيق استغلال الثروات الهائلة التي يمكن أن تعود بالنفع على شعوب المنطقة بأسرها، إذ إن التأخير في استغلال هذه الموارد يعني خسائر اقتصادية كبيرة لجميع الدول المعنية.
يبقى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا نقطة خلاف حادة، فبينما يرى قلة من الخبراء القانونيين والسياسيين، أنه يتوافق مع القانون الدولي ويخدم مصالح الدولتين، فإن الغالبية العظمى من خبراء القانون الدولي والجيوسياسة يعتبرونه انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي للبحار، ومحاولة لتغيير الحقائق الجغرافية والسياسية في شرق المتوسط.
وفي هذا الشأن، يشدد الخبير الاقتصادي أيمن عبدالوهاب على أن هذه القضية ستظل مصدراً للتوتر الإقليمي، إذا لم يوجد لها حل دبلوماسي وقانوني شامل يأخذ في الاعتبار حقوق جميع الدول المعنية.