جاء إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الرياض عن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا وإعطاء دمشق «فرصة» ليشكّل منعطفاً مفصلياً في تاريخ الاقتصاد السوري.
وقال ترامب، خلال زيارته إلى السعودية أمس، إن الطريقة الحالية في معاقبة سوريا «لا تترك لها مجالاً لبداية جديدة»، وهو ما جاء بعد مشاورات مكثفة مع قادة عرب، أبرزهم الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، الذي كان له دور محوري في إقناع واشنطن بأن رفع العقوبات سيكون خطوة ضرورية لدعم الاستقرار الإقليمي بحسب «واشنطن بوست».
من جهتها، رأت الحكومة السورية الجديدة، في بيان لوزارة الخارجية، أن القرار لحظة فارقة في المشهد الاقتصادي والسياسي للبلاد، تمهد لعودة سوريا إلى محيطها العربي والدولي.
ويرى الخبير الاقتصادي السوري محمود الطرن أن قرار رفع العقوبات الأميركية عن سوريا يُمثل تحولاً نوعياً سيتيح إعادة إحياء البنية الإنتاجية الوطنية، ويفتح المجال أمام هيكلة المؤسسات الاقتصادية بطريقة لم تكن ممكنة في ظل النظام السابق، معتبراً أن سوريا، ولأول مرة منذ عقود، تجد نفسها خارج دائرة العقوبات الغربية المباشرة.
يُتوقع أن يُحدث رفع العقوبات انفراجة كبيرة في قطاع المشاريع والاستثمار داخل سوريا، فبعد سنوات من الجمود والشلل، يمكن الآن للحكومة والقطاع الخاص بدء تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار الكبرى، التي تتطلب رؤوس أموال وخبرات خارجية، كما ذكرت «بلومبرغ» في تحليلها الأخير حول بيئة الأعمال في سوريا بعد العقوبات.
وتُقدّر تكلفة إعادة الإعمار بنحو 400 مليار دولار، رقم بات تحقيقه أكثر واقعية مع الانفتاح الجديد، وسيتاح للشركات الأميركية والأوروبية دخول السوق السوري مجدداً، والمنافسة على عقود الإعمار من دون أن تواجه تبعات قانونية.
كما من المرجح أن تبدأ الاستثمارات الخليجية بالتدفق إلى الداخل السوري، خاصة من السعودية وقطر والإمارات، عبر تمويل مشاريع حيوية تشمل إصلاح البنية التحتية، من الكهرباء والمياه إلى الطرق؛ ما سيساهم في خلق آلاف فرص العمل في مختلف القطاعات.
في المقابل، سيُعيد رفع القيود المالية والمصرفية ربط سوريا بالنظام المالي العالمي؛ ما سيُسهم في استقطاب رؤوس الأموال السورية في الخارج.
وقد يمنح القرار الاقتصاد السوري «شريان حياة طال انتظاره»، ويشجع مؤسسات تمويل دولية على تقديم قروض ميسرة للمشاريع الاستراتيجية، لا سيما تلك المرتبطة بالإعمار والطاقة.
ويؤكد الطرن أن النظام المالي السوري قادر على إعادة الاندماج في المنظومة المصرفية العالمية، بشرط صياغة رؤية واضحة يديرها خبراء مطلعون على قواعد العمل المصرفي الدولي.
ويوضح: «في حال وُضعت خطة دقيقة ومدروسة، فإن دخول النظام المصرفي السوري إلى النظام المالي العالمي قد يتم خلال فترة قياسية».
وبحسب رأيه، فإن رفع العقوبات سيسرّع من تدفّق الأموال والاستثمارات الخارجية، خصوصاً إذا تم توفير الظروف المناسبة لاستخدام منصة (SWIFT) بحرية كاملة وفقاً للضوابط والشروط المعمل بها، ما سيؤدي إلى زيادة كبيرة في السيولة داخل السوق السورية، ويُحدث أثراً ملموساً على النشاط الاقتصادي.
لكنه يلفت إلى أن عودة رؤوس الأموال السورية المهاجرة لن تكون فورية، بل ستتم بشكل تدريجي، مشدداً على أن المستثمرين بحاجة إلى ضمانات لحماية استثماراتهم، وهو ما يتطلب إصلاحات قضائية وضمانات سيادية لم تُستكمل بعد.
ويتابع: «من المبكر القول إن البنية القانونية باتت جاهزة، لكن هناك إشارات إيجابية بأن الدولة الجديدة راغبة في خدمة المستثمر وتوفير بيئة آمنة».
ويُشير إلى أن بعض الاستثمارات الكبرى قد تدخل حتى قبل إنجاز نظام قضائي متكامل، مستشهداً بعقد أبرمته شركة (CMA-CGM) الفرنسية مع الحكومة السورية كمثال على ذلك.
وبدأت مؤسسات أوروبية وأممية بالفعل في الإعداد لحزم دعم تتجاوز مليارات الدولارات، في إطار توافق دولي ناشئ على دعم سوريا ما بعد النزاع، بشرط وجود حدّ أدنى من الاستقرار السياسي والمؤسسي.
من المتوقع أن تشهد التجارة الخارجية انتعاشاً تدريجياً نتيجة رفع القيود عن الاستيراد والتصدير. وخلال سنوات الحصار، تقلّصت الصادرات السورية بأكثر من 90% نتيجة انهيار موارد النفط والسياحة والعقوبات على المرافئ، بحسب «الغارديان».
ومع إزالة القيود المالية والنفطية، ستتمكن سوريا من تصدير منتجاتها الأساسية مثل النفط والفوسفات والمنتجات الزراعية إلى الأسواق الإقليمية والدولية؛ ما يعزز تدفق العملة الصعبة.
ونقلت «بلومبرغ» أن كلفة استيراد السلع الأساسية ستتراجع؛ ما سيؤدي إلى تخفيف أزمات النقص، ويسهم في إعادة تشغيل العديد من المصانع المتوقفة؛ بسبب عدم توفر المواد الأولية.
كذلك يُتوقّع أن يساعد القرار على استعادة جزء من الأصول السورية المجمدة، والمقدّرة بنحو 200 مليون دولار بحسب «وول ستريت جورنال»، ما سيُعزز احتياطي البنك المركزي، ويمنح الدولة قدرة أكبر على تمويل المشاريع الأساسية.
أما بشأن تحسن سعر صرف الليرة السورية مؤخراً، فيرى الطرن أن هذا التحسن «ليس مستداماَ ولا يعكس مؤشرات اقتصادية حقيقية»، مؤكداً أن سعر الصرف لا يزال مصطنعاً وخاضعاً لتدخل البنك المركزي وردود الفعل السياسية، وليس لعوامل السوق. ويضيف: «طالما أن الإنتاجية شبه متوقفة ومفاصل الدولة لم تُفعّل بالكامل، لا يمكن بناء رؤية علمية مستقرة بشأن مستقبل الليرة السورية».
ويؤكد الطرن على أن سوريا تحتاج بشكل عاجل إلى خبرات مصرفية محترفة لإدارة العلاقة مع مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، خاصة في ما يتعلق بتنظيم اتفاقيات التمويل، وآليات التنفيذ، وتطبيق هذه المشاريع داخل السوق السورية. "هذه أولوية لا يمكن تأجيلها إذا كنا فعلاً نطمح للاستفادة من الانفتاح المالي الدولي"، يوضح الطرن.
يمسّ رفع العقوبات كافة جوانب الحياة اليومية. مع تحسن سعر الصرف وتدفّق السلع، ويُتوقّع أن تنخفض أسعار العديد من المواد الأساسية، أو على الأقل أن يتباطأ ارتفاعها الجنوني.
وارتفاع الليرة يعني تحسّناً مباشراً في القدرة الشرائية للمواطنين. فكل انخفاض بمقدار 5000 ليرة في سعر صرف الدولار، يعني انخفاضاً يصل إلى 30% في أسعار السلع المستوردة، كما رصدت «رويترز «في مقارنتها بين مستويات الأسعار وسعر الصرف.
أما على صعيد التوظيف، فتتوقع «فايننشال تايمز» أن تخلق مشاريع الإعمار والبنية التحتية فرص عمل واسعة، خاصة في مجالات البناء والخدمات؛ ما من شأنه أن يحرك السوق الداخلية، ويعيد تنشيط القطاع الخاص.
الخدمات العامة بدورها ستستفيد من إنهاء العزلة التقنية. فقد عانت منشآت الكهرباء والمياه والمشافي من نقص في المعدات وقطع الغيار، وهي الآن قادرة على استيراد ما تحتاجه دون عراقيل.
أما في قطاع الطاقة، فذكرت «دويتشه فيله» أن شركة «سيمنز» الألمانية دخلت في محادثات مبدئية لإعادة تشغيل محطات كهرباء سورية، ضمن اتفاقيات فنية جديدة أصبح بالإمكان توقيعها بعد تخفيف القيود.
وفي المجال الصحي، ستتمكن سوريا مجدداً من استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية الحديثة؛ ما سينعكس على نوعية الرعاية الصحية المقدمة للمواطنين.