بخفض قيمة الدينار وكشف حساب غير مسبوق للاقتصاد ولقاءات مع مسؤولين محليين ودوليين، تتواصل تحركات المصرف المركزي الليبي لتفادي «الانهيار الاقتصادي وبحث إطلاق حزمة إصلاحات مالية ونقدية وتجارية»، وسط تراجع صادم بأسعار النفط العالمية، وخلل في الإنفاق الحكومي مع وُجود حكومتين بالبلاد.
حزمة الإصلاحات الاقتصادية التي يتحدث عنها المصرف المركزي الليبي، على مدار نحو شهر لم يعلن عن موعد صدورها أو كيفية تطبيقها بعد، غير أن مسؤولاً رقابياً بالبلاد تحدث لـ«إرم بزنس»، مؤكداً ضرورة تلك الإصلاحات في ضوء تأكيده أن ليبيا في «مفترق طرق حاسم، إصلاحات أو انزلاق نحو التدهور.
ويتوقع المسؤول الرقابي الليبي 5 مسارات ينتهجها المصرف المركزي لكبح جماح أي انهيار مستقبلي محتمل منها إنشاء لجنة مالية موحدة لضبط إنفاق الحكومتين اللتين تديران البلاد في ظل الانقسام السياسي المستمر منذ 2011، محذراً من عدم اتخاذ قرارات شجاعة وبدء مسار إصلاحي، ولو بشكل جزئي على قيمة العملة وصمود الاقتصاد.
ويرجح أستاذ اقتصاد ليبي تحدث أيضاً لـ«إرم بزنس»، أن تشمل حزمة الإصلاحات التي قدمها المصرف للحكومتين خفض الإنفاق الحكومي بتوحيد بندي المرتبات والدعم، واتخاذ إجراءات بشأن رفع الجمارك وتقليص ميزانية السفارات وزيادة الإيرادات من الضرائب، محذراً من أن عدم الاستجابة لمشورة المصرف ستضغط أكثر على سعر الصرف لتعديل جديد وأزمة اقتصادية أكبر.
كان الخط الفاصل في مسار «المركزي» لمواجهة الأزمة الاقتصادية بليبيا يوم الـ6 من أبريل الماضي بإعلان تخفيض سعر الصرف وصولاً إلى الـ5 من مايو الجاري بإطلاق خدمة جديدة لمكافحة غسل الأموال، كما كشف حساب اقتصادي للمرة الأولى بتاريخ البلاد منذ الصراع السياسي، مروراً بلقاءات مع مسؤولين محليين بحكومتي الشرق والغرب والبرلمان الليبي، بخلاف أخرى مع مسؤولين دوليين تحدث بعضها عن حزمة إصلاحات يعدها المصرف وتحذيرات من انهيار اقتصادي مستقبلي حال عدم اتخاذ إجراءات شجاعة.
وقرر مصرف ليبيا المركزي، المسؤول عن إيرادات النفط المصدر الرئيس للعملة الأجنبية بالبلاد ودفع رواتب موظفي الدولة، في بيان يوم الـ6 من أبريل الحالي «تخفيض قيمة الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية 13.3%»، ليصبح 5.5677 دينار مقابل الدولار، وهو أول خفض رسمي منذ عام 2020، مرجعاً ذلك إلى ضغط الإنفاق المتزايد من الحكومتين المتنافستين خلال عام 2024، والذي بلغ 224 مليار دينار «نحو 46 مليار دولار»، محذراً من أن استمراره «سيفاقم الوضع المالي والاقتصادي» وعدّه أمراً «خطيراً».
وبعد خطوة التخفيض، عقد محافظ المصرف الليبي ناجي عيسى، لقاءات بشأن المسار المالي للبلاد مع مسؤولين بصندوق النقد الدولي في أيام 14 و21 و22 أبريل الماضي، طرح خلاله مساعي المصرف لحزمة إصلاحات اقتصادية، بحسب بيانات للمصرف.
وعقد عيسى، في 16 و17 و28 و29 أبريل، لقاءات مع أعضاء مجلس النواب الليبي، ورئيس الحكومتين طرابلس، عبدالحميد الدبيبة، وبنغازي، أسامة حماد ورئيس هيئة الرقابة الإدارية عبد الله قادربوه شملت في أغلبها بحث «سبل إطلاق حزمة إصلاحات مقترحة مالية ونقدية وتجارية بشكل عاجل للخروج من الأزمة»، مشدداً على أن «الوضع الاقتصادي يتطلب قرارات جريئة، وتعاوناً وطنياً واسعاً، لتفادي سيناريوهات الانهيار الاقتصادي».
وخلال لقاء عيسى في الـ29 من أبريل مع المستشار المالي لرئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية، محمد الشهوبي «اتفقا على سرعة تشكيل فرق عمل مشتركة للشروع في وضع اللمسات الأخيرة على حزمة الإصلاحات الاقتصادية استعداداً لإطلاقها بشكل رسمي»، دون تحديد موعد.
في حديث لـ«إرم بزنس»، قال وزير الدولة لشؤون الاقتصاد السابق ورئيس مجلس المنافسة ومنع الاحتكار الليبي الحالي، الدكتور سلامة الغويل: «المصرف المركزي أجرى لقاءات عديدة، وبكل واقعية الاقتصاد الليبي يقف اليوم على مفترق طرق حاسم إما التوجه نحو إصلاح حقيقي وشامل يبدأ من ضبط السياسة المالية والمصرفية، وإما الانزلاق نحو تدهور شامل قد يؤدي إلى فقدان الثقة الكامل بالدينار، وانهيار الاحتياطي، وعودة السوق السوداء كمحدد رئيس للأسعار».
والمسارات المقترحة أمام المصرف بحسب الغويل تركز على 5 بنود هي «توحيد السياسة المالية عبر إنشاء لجنة مالية موحدة تعمل تحت مظلة المصرف لضبط الإنفاق، وتحفيز الاقتصاد الإنتاجي بدلاً من الاعتماد الكامل على الريع النفطي، وضبط سوق الصرف من خلال حوكمة الاعتمادات المستندية ووضع قيود على التحويلات المشبوهة وتعزيز الشفافية المالية وربط الصرف بقاعدة بيانات وطنية، وإصدار إجراءات تقشفية عقلانية تطال المصروفات التسييرية للقطاع العام، وليس فقط الدعم».
ويواجه تلك المسارات تحديات اقتصادية راهنة تتمثل في «تراجع احتياطي النقد الأجنبي مقارنة بحجم الإنفاق، وانخفاض القوة الشرائية للدينار؛ بسبب الفجوة بين السعر الرسمي والسوق الموازي، وازدياد التمويل بالعجز؛ ما يؤدي إلى تضخم كامن مهدد بالانفجار، وأخيرا الإنفاق خارج الميزانية المعتمدة من قبل الحكومتين، ما يربك السياسة النقدية»، وفق الغويل.
وبلغ إجمالي مصروفات النقد الأجنبي في الربع الأول من العام الجاري نحو 9.8 مليار دولار، بينما الإيرادات النفطية والإتاوات الموردة للمصرف المركزي (تعاملات النقد الأجنبي لدى المصرف) بلغت نحو 5.2 مليار دولار حتى يوم الـ27 من مارس الماضي بعجز بلغ نحو 4.6 مليار دولار خلال ثلاثة أشهر فقط (الربع الأول)، فيما سيبلغ الدين العام الليبي 270 مليار دينار وسط توقعات بأن يتجاوز 330 مليار دينار بحلول نهاية العام، بحسب بيان سابق للمصرف.
وعن مستقبل الاقتصاد الليبي، يرى الغويل أنه «إذا استمرت السياسات الحالية دون تغيير، فالمستقبل يحمل مزيداً من التآكل في قيمة الدينار، وتصاعد الدين الداخلي، وتفاقم الفجوة الاجتماعية»، أما إذا «تم تبني مسار الإصلاح حتى ولو جزئياً فإن ليبيا تملك فرصاً واعدة، بفضل ثرواتها الطبيعية، وموقعها الجغرافي، ووجود قاعدة بشرية مؤهلة نسبياً».
ويعتقد أن «الاقتصاد الليبي لا يحتاج إلى خطط معقدة، بل إلى قرارات شجاعة، وسيادة للرقابة، ووحدة في القرار المالي. والمصرف المركزي، رغم ضغوطه، يظل حجر الزاوية في إعادة التوازن، شريطة ألا يُترك وحيداً في مواجهة فوضى الإنفاق السياسي».
على مسافة قريبة، يرى أستاذ الاقتصاد في جامعة بنغازي الدكتور أيوب الفارسي لـ«إرم بزنس»، أن المصرف المركزي بصفته مستشار الحكومة قدم حزمة من الإصلاحات للحكومتين من أجل تخفيض الإنفاق الحكومي وجعل البنود التي تشترك فيها الحكومتان بنوداً واحدة كبندي المرتبات والدعم وصولاً لتوافقات فيما يخص التنمية.
ويعتقد أن الفَيصل في قوة الاقتصاد وقوة الدينار الليبي يتمثل فيما ستتخذه الحكومتان من إجراءات لاستجابة مشاورة المصرف المركزي بحزمة إصلاحية، أولها فيما يخص الجمارك والثاني بشأن تقليص السفارات وتقليل الإنفاق، بجانب محاولة لإلغاء الضريبة المفروضة على السعر الرسمي للصرف.
وأوضح أن توصيات المصرف المركزي تسعى لضبط المالية العامة لليبيا وخفض الإنفاق وتحديد أولوياته، حتى لا يضطر لتعديل جديد في سعر الصرف حال عدم الترشيد، واستمرار الخلل في الإيرادات السيادية للدولة الخاصة بالجباية والضرائب التي لا تتعدى 4% من الإيرادات في ظل تعرض الإيرادات النفطية الرئيسة بموازنة الدولة التي تعرضت لصدمة لتراجع أسعار النفط عالمياً وتوقعات بتراجعات أكثر حال اتفاق روسيا وأوكرانيا على إنهاء الحرب بينهما.