يوم الجمعة، فقدت الولايات المتحدة تصنيفها الائتماني المثالي الأخير «AAA» من وكالة موديز، التي خفضته إلى «Aa1»، منهية بذلك سلسلة استمرت منذ عام 1917. استندت الوكالة إلى ارتفاع العجوزات المالية وتكاليف الفوائد، في خطوة تأتي بعد تحذيرات أطلقتها عام 2023، وتخفيضات سابقة من وكالتي «فيتش» عام 2023 و«ستاندرد آند بورز» عام 2011.
لكن توقيت هذا القرار وملابساته يغلفهما الكثير من «السخرية»، إذ يكشفان ليس فقط عن سوء إدارة مالية، بل عن أزمة اقتصادية وجيوسياسية أعمق تم تجاهلها لعقود.
هذا الخفض ليس مفاجأة بقدر ما هو اعتراف متأخر بحقيقة واضحة منذ زمن: الولايات المتحدة مدمنة على الإنفاق. مع دين وطني يتجاوز 37 تريليون دولار -أي حوالي 120% من الناتج المحلي الإجمالي- لم تستمر العجوزات فحسب، بل نمت، حتى في أوقات الانتعاش الاقتصادي.
هذا ليس مجرد تبذير؛ إنه رفض منهجي لمواجهة الواقع.
وفقاً لمنطق «موديز»، كان يجب أن تفقد الولايات المتحدة تصنيفها الأعلى منذ عقد على الأقل، عندما أصبح مسار الإهمال المالي لا يمكن إنكاره.
تعود جذور هذه الأزمة إلى مزيج خطير من غرور السياسات والأوهام الأيديولوجية. نظرية النقد الحديثة، التي روج لها أكاديميون مثل ستيفاني كيلتون وتبناها صانعو السياسات بشكل ضمني، قدمت غطاءً فكرياً للإنفاق غير المحدود. فكرة أن العجوزات لا تهم طالما أن الدولة تسيطر على عملتها قد تسربت إلى القرارات، مما مكّن الولايات المتحدة من تكديس الديون دون الاكتراث بالعواقب.
عندما تحدث رؤساء الاحتياطي الفيدرالي مثل بن برنانكي عن طباعة النقود «بدون تكلفة» أو قللوا من أزمة الرهون العقارية قبل أن تؤدي إلى انهيار اقتصادي عالمي، كشفوا عن فجوة بين الخطاب والواقع.
كل خطأ -من سياسات جانيت يلين لأسعار الفائدة الصفرية لسنوات إلى تفاخر نيل كاشكاري بـ«المال اللانهائي»- كان يجب أن يثير تساؤلات من وكالات التصنيف، لكن الصمت كان سيد الموقف.
لم يحدث هذا الإهمال المالي في فراغ. جيوسياسياً، اعتمدت الولايات المتحدة بشكل كبير على مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية، وهي ميزة تتيح لها الاقتراض بأسعار لا تستطيع دول أخرى تحملها. لكن هذه الميزة الكبيرة، كما وصفها الاقتصادي الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، عززت الإهمال، مما سمح لإدارات متعاقبة بتمويل الحروب وخفض الضرائب وبرامج التحفيز دون معالجة العجوزات الهيكلية.
إدارة بايدن، على سبيل المثال، لم تكترث حتى بمجرد الحديث عن ضبط النفقات، معتبرة الانضباط المالي مجرد إزعاج سياسي. في الوقت نفسه، تتآكل الثقة العالمية بالدولار، مع تنويع قوى صاعدة مثل الصين والهند لاحتياطياتها واستكشاف أطر تجارية بديلة -وهي اتجاهات قد تضخم تأثير الخفض على المدى الطويل.
تزداد السخرية مع توقيت القرار، فإدارة ترامب، رغم عيوبها، أشارت على الأقل إلى إصلاحات مالية، وعود بإعادة تهيئة التجارة، تقليص الإنفاق من خلال مبادرات مثل (DOGE)، وتسليط الضوء على تقليص العجز تمثل تحولاً خطابياً عن الوضع الراهن.
ولا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت هذه الجهود ستؤتي ثمارها، لكنها تعكس اعترافاً نادراً بالمشكلة. ومع ذلك، الآن بالذات -عندما بدأ الحديث عن الضبط المالي- تختار «موديز» التحرك.
ويبدو الخفض أقل كموقف مبدئي وأكثر كإيماءة شكلية، تم توقيتها بعناية لتحويل اللوم عن سنوات من تقاعس الوكالة.
هذا لا يعني أن «موديز» مخطئة تماماً، فالمسار المالي للولايات المتحدة غير مستدام. ومن المتوقع أن تصل مدفوعات الفوائد على الدين إلى تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2030، مما يحد من النفقات الأخرى ويعرض البلاد لدوامة من الاقتراض لتسديد الديون.
لكن أهمية الخفض مبالغ فيها.
وكالات التصنيف، التي كانت متواطئة في أزمات سابقة مثل انهيار الرهون العقارية عام 2008، تفتقر إلى المصداقية لفرض النتائج. علاوة على ذلك، من المرجح أن تستمر الولايات المتحدة في الاعتماد على طباعة النقود، مستغلة مكانة الدولار لتأخير الحساب.
التيسير الكمي، الذي تم تسريعه خلال كوفيد، أظهر بالفعل خطة واشنطن: عندما يكون هناك شك، قم بتغطية المشكلة بالنقود.
جيوسياسياً، يؤكد الخفض على تحول أوسع. بينما تتصارع الولايات المتحدة مع الخلل الداخلي، تتآكل قدرتها على فرض النفوذ. الحلفاء والخصوم على حد سواء يتساءلون عن موثوقية دولة تبدو غير قادرة على إدارة مالياتها. مجموعة البريكس، على سبيل المثال، تسرع جهودها لتقليل الاعتماد على الدولار، بينما تبرم القوى الإقليمية اتفاقيات تجارية تتجاوز نفوذ الولايات المتحدة.
هذه الاتجاهات، تشير إلى عالم متعدد الأقطاب حيث لم يعد يُنظر إلى الاستثنائية الأميركية كأمر مسلم به.
بدأت الولايات المتحدة هذه التجربة النقدية قبل عقود، والآن تتكشف عواقبها. سواء كانت النهاية هي التضخم الجامح، أزمة عملة، أو تآكل بطيء في مستويات المعيشة، لا أحد -لا «موديز»، ولا الاحتياطي الفيدرالي، ولا الخزانة- يمكنه ادعاء الجهل. الخفض ليس دعوة للاستيقاظ؛ إنه مجرد هامش متأخر لقصة إنكار.
بالنسبة لأمة طالما تفاخرت بسيطرتها الاقتصادية، فإن السخرية الحقيقية ليست في فقدان تصنيف، بل في فقدان الانضباط الذي كان يدعمها ذات يوم.