في عالم الاقتصاد، الثقة أهم من الوقائع نفسها. الأسواق لا تنتظر البيانات فقط، بل تستبق الإشارات القادمة من مراكز القرار. وحين يكون رئيس أقوى اقتصاد في العالم مصدراً للارتباك والقلق بدلاً من الاطمئنان، يصبح التردد والتناقض في السياسات خطراً أكبر من أي حرب تجارية أو أزمة مصرفية.
اليوم، لا يعاني الاقتصاد الأميركي فقط من آثار الرسوم الجمركية أو توترات السياسة النقدية، بل من أزمة أعمق: أزمة قيادة تتجسد في أسلوب دونالد ترامب بالتعامل مع الملفات الاقتصادية المصيرية.
الأزمة الحالية لا تبدأ بإعلان فرض الرسوم الجمركية، ولا تنتهي بتهديد رئيس الاحتياطي الفيدرالي، بل تتجلى في تردد ترامب وتناقضه بين التصعيد والتراجع العشوائي.
رئيس الولايات المتحدة يُعد المؤشر الأول الذي يستقرئ المستثمرون والشركات منه اتجاه السوق والمستقبل الاقتصادي، ولكن ترامب يتصرف وكأنه غافل عن هذه الحقيقة — أو ربما يتجاهلها عمداً لخدمة أهداف سياسية قصيرة الأجل.
بدلاً من بث رسائل استقرار، يبعث إشارات متضاربة تزيد التقلبات وتعمق الشكوك. تصريحاته المتناقضة تدفع الأسواق إلى اهتزازات خطيرة، وتحول قرارات الاستثمار إلى رهانات محفوفة بالمخاطر. منذ نحو شهر، أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب محاولة جذرية لإعادة تشكيل الاقتصاد الأميركي بناء على فرضية أن الولايات المتحدة ضحية للعولمة الاقتصادية، فقام بفرض رسوم جمركية على كل دول العالم (باستثناء إسرائيل بالطبع، وهدد بعزل رئيس الاحتياطي الفيدرالي، وأشعل حرباً تجارية مع الصين).
ومع تزايد الضغوط من الأسواق المالية وكبار الشركات الأميركية؛ بسبب آثار الرسوم المرتفعة (145% على الواردات الصينية)، بدأ ترامب يتراجع تدريجياً عن تشدده، معلناً استعداده لعقد صفقات تجارية، رغم نفي بكين لوجود مفاوضات.
الرسوم أثرت في ثقة الأسواق والشركات، حيث أُلغيت العديد من شحنات البضائع عبر المحيط الهادئ، وسط تحذيرات من نقص السلع وارتفاع الأسعار للمستهلكين الأميركيين.
صندوق النقد الدولي رفع توقعاته للتضخم، وخفض نمو الاقتصاد الأميركي لعام 2025 إلى 1.8%، وسط قلق عالمي من الأضرار الذاتية التي تلحقها الولايات المتحدة بنفسها نتيجة السياسات التجارية الحالية.
الأخطر أن ترامب فعلياً لا يخاطب الأسواق أو الشركات التي تخلق الوظائف، بل يدغدغ مشاعر قاعدة شعبية من جهلاء وأنصاف متعلمين لا يملكون نصيباً فعلياً من الاستثمارات أو الأصول، وبالتالي لا يستشعرون الآثار المباشرة لهذه الأزمات.
هذه القاعدة، رغم عدم تأثرها الفوري بانهيارات الأسواق، ستدفع الثمن لاحقاً حين تتحول الأزمة إلى بطالة، وانكماش، وفرص عمل ضائعة.
في ظل هذا المشهد، يفقد الاقتصاد الأميركي ميزة استراتيجية لا تُقدّر بثمن: وضوح الرؤية واستقرار الثقة، وهما عماد أي نمو مستدام.
كلما طال زمن الارتباك الرئاسي، كلما اقتربت الولايات المتحدة أكثر من أزمة كبرى، قد لا يكون التعافي منها سهلاً.
في نهاية المطاف، تردد ترامب وتناقضاته ليست مجرد سلوكيات شخصية عابرة، بل أصبحت مُهدداً بنيوياً للثقة بالاقتصاد الأميركي.
وكما قال أحد الاقتصاديين: «حين يصبح التردد السياسي هو الثابت الوحيد، يتحول الاقتصاد إلى رهينة لمزاج شخص لا يحسب عواقب أفعاله».
إذا استمر هذا النهج، فإن المستقبل القريب لن يحمل فقط ارتفاع الأسعار وتباطؤ النمو، بل أيضاً تآكل ثقة العالم كله بقيادة الاقتصاد الأميركي، وهذا الخطر لا يمكن إخفاؤه خلف شعارات التفاوض والمكابرة السياسية.