في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث، وتتشابك فيه السياسة بالاقتصاد، لم يعد السؤال: ما المخاطر التي نواجهها؟، بل أصبح: هل يمكننا حتى التنبؤ بهذه المخاطر؟.
فالعالم، اليوم، يعيش على إيقاع قرارات مفاجئة، من رفع رسوم جمركية بين ليلة وضحاها، إلى تغيير تحالفات اقتصادية عمرها عقود، إلى اندلاع نزاعات مسلحة تُغلق ممرات تجارية حيوية.
هذه الحالة من عدم اليقين لا تهدد فقط المستثمرين وأسواق المال، بل قد تضرب في عمق واحدة من أكثر الصناعات حيوية للاقتصاد الحديث: التأمين.
فماذا يحدث عندما تصبح المخاطر غير قابلة للحساب، والأسعار غير قابلة للتقدير، والعقود التأمينية أقرب إلى لعبة حظ منها إلى خطة أمان مالي؟
في زمننا الحالي، لم يعد الاقتصاد العالمي يتحرك وفق أنماط يمكن التنبؤ بها بسهولة. التغيرات السريعة في السياسات، والحروب التجارية، والأزمات الجيوسياسية، جعلت حالة عدم اليقين سمة أساسية في المشهد الاقتصادي الدولي. وإذا كانت معظم القطاعات الاقتصادية تستطيع التعامل مع تقلبات السوق، فإن صناعة التأمين من بين أكثر القطاعات عرضة للتأثر العميق بهذه الحالة، لأنها بطبيعتها تقوم على تقدير المخاطر، وحساب احتمالات وقوعها.
تقوم صناعة التأمين على مبدأ أساس: القدرة على توقع المخاطر بدقة كافية تسمح بوضع أسعار عادلة للأقساط، وتوفير تغطيات مستدامة. هذا يتطلب بيانات إحصائية موثوقة، وتاريخًا كافيًا لتطور المخاطر، واستقرارًا نسبيًا في البيئة الاقتصادية والسياسية.
عندما يختل هذا الاستقرار، يصبح عمل شركات التأمين أصعب بكثير. فالتغيرات المفاجئة في القوانين، أو فرض رسوم جمركية جديدة، أو حتى اندلاع نزاعات مسلحة، كلها عوامل تزيد من صعوبة التنبؤ بالمستقبل، وبالتالي تهدد نموذج عمل التأمين ذاته.
لنأخذ مثال الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وما تبعها من موجات فرض رسوم جمركية مرتفعة. في عالم التأمين، مثل هذه التطورات لا تؤثر فقط على تكلفة السلع أو تدفقات التجارة، بل تغيّر أيضًا من شكل المخاطر التي تواجهها الشركات.
على سبيل المثال، شركات الشحن البحري التي كانت تؤمّن على بضائعها وفق أسعار مستقرة، وجدت نفسها فجأة أمام بيئة يتغير فيها الطلب، وتتبدل فيها طرق الإمداد، بل وتُلغى فيها بعض العقود التجارية بالكامل. هذا أجبر شركات التأمين على إعادة تقييم التغطيات، وإعادة تسعير المخاطر بوتيرة أسرع مما اعتادت عليه.
إلى جانب الحرب التجارية، هناك عنصر آخر يزيد الطين بلة: التوترات السياسية والجيوسياسية. الصراعات الإقليمية، وتغير التحالفات، وحتى القرارات الفردية من قادة الدول الكبرى، كلها يمكن أن تُحدث تقلبات حادة في الأسواق.
في مثل هذه الظروف، تصبح التنبؤات أقل موثوقية، وتتحول عمليات التأمين من نشاط مستقر إلى مغامرة مالية. بعض شركات التأمين تتخذ موقفًا دفاعيًا بالانسحاب من أسواق عالية المخاطر، بينما يغامر البعض الآخر برفع الأسعار لتعويض الغموض، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى انخفاض حجم سوق التأمين نفسه.
شركات التأمين لا تحتفظ بأموال العملاء في خزائن مغلقة، بل تستثمرها في أدوات مالية متنوعة لتوليد عوائد تساعدها على دفع التعويضات. ولكن مع حالة عدم اليقين في أسواق المال – سواء من خلال تقلب أسعار الفائدة، أو تذبذب أسعار الصرف، أو الانخفاضات المفاجئة في البورصات – فإن قدرة هذه الشركات على إدارة استثماراتها تتعرض لضغوط إضافية. هذا يعني أن الخسائر قد تأتي من جهتين في وقت واحد: خسائر في الاستثمارات، وارتفاع مفاجئ في المطالبات نتيجة أحداث غير متوقعة.
أخطر سيناريو يمكن أن يواجه السوق هو أن تصل حالة عدم اليقين إلى مستوى يجعل أقساط التأمين مرتفعة جدًا لدرجة لا يتحملها العملاء. في هذه الحالة، قد يختار الأفراد والشركات الاستغناء عن التأمين تمامًا، أو الاكتفاء بتغطيات محدودة للغاية.
وعندما تتقلص قاعدة العملاء، تبدأ شركات التأمين في فقدان الاقتصاديات الحجمية التي تساعدها على البقاء مربحة، ما قد يدفع بعض الشركات إلى الانسحاب من السوق أو حتى الإفلاس.
التاريخ الاقتصادي يقدم لنا أمثلة على كيف أن عدم اليقين يمكن أن يعصف بسوق التأمين. خلال الحربين العالميتين، انهارت العديد من شركات التأمين أو جمدت نشاطها في مناطق الصراع بسبب استحالة تقدير حجم المخاطر. وفي الأزمة المالية العالمية العام 2008، رغم أن السبب المباشر كان انهيار سوق الرهن العقاري، إلا أن حالة الذعر وعدم اليقين أثرت على سوق التأمين عبر انخفاض الأصول التي تدعم الملاءة المالية للشركات.
رغم أن القضاء على عدم اليقين أمر مستحيل، إلا أن شركات التأمين يمكنها اتخاذ خطوات لتخفيف أثره، مثل:
إن استمرار حالة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي لا يهدد فقط حركة التجارة أو الاستثمارات، بل يهدد أيضًا صناعة التأمين التي تعد إحدى ركائز استقرار النشاط الاقتصادي. فالتأمين ليس رفاهية، بل هو شبكة الأمان التي يعتمد عليها الأفراد والشركات والحكومات لمواجهة الأزمات.
وإذا انهارت هذه الشبكة تحت وطأة الغموض والمخاطر غير القابلة للتنبؤ، فإن التداعيات لن تمس شركات التأمين وحدها، بل ستمتد إلى كافة مفاصل الاقتصاد. وربما عندها سنجد أنفسنا أمام مشهد لم يكن في الحسبان: اقتصاد عالمي بلا مظلة أمان، حيث يصبح الخطر هو القاعدة، والأمان هو الاستثناء.