خاضت المملكة المتحدة في الآونة الأخيرة تجربتين تفاوضيتين تكشفان عن مفارقة لافتة في نهج شركائها الكبار تجاه التجارة الدولية. فمن جهة، عقدت اتفاقاً مع الولايات المتحدة يعكس توجهاً متزايداً نحو الحمائية، حيث تم تثبيت رسوم جمركية مرتفعة مقابل مكاسب محدودة. ومن جهة أخرى، توصلت إلى اتفاق مع الهند يتسم بانفتاح ملحوظ وتحرير تدريجي للأسواق، بعد مفاوضات استغرقت أكثر من عامين.
وبين هذين الاتفاقين، تبدو بريطانيا وكأنها تختبر وجهين متناقضين للتجارة العالمية: أحدهما يقوم على فرض القيود، والآخر يسعى لتقليصها.
عزز الاتفاق التجاري الأخير بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والذي أعقب قرار واشنطن برفع الرسوم الجمركية في 2 أبريل، مؤشرات التحول نحو سياسة تجارية أميركية أكثر تشدداً، فعوضاً عن العودة إلى ما كانت عليه العلاقات قبل التصعيد، جاء الاتفاق الجديد محدوداً في نطاقه، ما يعكس رغبة إدارة ترامب في ترسيخ الرسوم المرتفعة كأداة دائمة في سياساتها التجارية مع الحلفاء.
ورغم وصف البيت الأبيض للاتفاق، الذي أُعلن عنه الخميس الماضي، بأنه «تاريخي»، إلا أن التنازلات الواردة فيه جاءت متواضعة إذا ما قورنت بحجم التبادلات التجارية التي سبقت موجة الإجراءات الحمائية الواسعة التي أطلقها ترامب خلال ولايته.
ووفقاً لتحليل نشره «معهد كاتو» (Cato Institute)، فإن مؤشرات عديدة تدل على أن الإدارة الأميركية لا تسعى للتراجع، بل تعمل على ترسيخ سياسة تجارية قائمة على فرض الرسوم، بالرغم من الانتقادات الواسعة التي طالت هذه المقاربة من حيث آثارها الاقتصادية السلبية ومحدودية مكاسبها الاستراتيجية.
ففي بداية ولاية ترامب، كان متوسط الرسوم الجمركية الأميركية على الواردات يقارب 3.3%، أما بموجب الاتفاق الجديد مع بريطانيا، فستخضع السلع البريطانية لرسوم تصل إلى 10%، وهي رغم ذلك تُعد الأدنى حالياً بين شركاء الولايات المتحدة.
تشكل صادرات السيارات البريطانية إحدى أبرز النقاط المتضررة؛ إذ كانت تخضع سابقاً لرسوم بنسبة 2.5% فقط، لكنها ستواجه الآن نسبة 10% لأول 100 ألف مركبة تُصدّر سنوياً إلى السوق الأميركية، فيما تُفرض رسوم بنسبة 25% على أي كميات إضافية، وهذا يعكس بوضوح الانتقال من سياسة الرسوم كأداة تفاوضية مؤقتة، إلى استخدامها كوسيلة تحصيل ثابتة، إذ أعلنت الإدارة الأميركية أن الاتفاق الجديد سيوفر إيرادات إضافية بقيمة 6 مليارات دولار، وقدّمت ذلك كأحد أبرز إنجازاته.
يمنح الاتفاق بعض التسهيلات لقطاعات أميركية محددة، حيث سيسمح بتصدير 13 ألف طن متري من لحوم الأبقار الأميركية و1.4 مليار لتر من الإيثانول المدعوم حكومياً إلى السوق البريطانية من دون رسوم. في المقابل، ستتمكن كمية من صادرات الفولاذ والألمنيوم البريطانية من دخول السوق الأميركية دون رسوم، لكن تفاصيل هذه الإعفاءات لا تزال غير واضحة.
كما تفتقر معظم بنود الاتفاق إلى الإلزامية والوضوح، إذ استخدم نص الاتفاق — المؤلف من خمس صفحات — عبارات مثل «تنوي» و«تخطط» أكثر من عشرين مرة، ما يشير إلى طابعه غير النهائي. وأشار الجانبان إلى رغبتهما في تقليص الرسوم على «مجموعة» من السلع مستقبلاً، عقب «فترة تفاوض معقولة»، لكن حتى الآن، لم يتم تحديد أي إطار زمني لفتح الأسواق الزراعية أو لتفعيل الاعتراف المتبادل بالمعايير الصناعية.
ويرى محللون أن الاتفاق يفتقر إلى العمق الذي يميز الاتفاقات التجارية الكبرى، التي عادة ما تحتاج إلى أكثر من عام من التفاوض التقني والسياسي لصياغتها، ويبدو أن البيت الأبيض فضّل إنجازاً سريعاً يمكن الترويج له، حتى لو جاء ذلك على حساب اتفاق شامل ومتوازن.
في مقابل الاتفاق المحدود مع واشنطن، يقدّم الاتفاق التجاري بين المملكة المتحدة والهند نموذجاً مغايراً من حيث العمق والشمول، فقد جرى التوصل إليه بعد أكثر من عامين من المفاوضات المتواصلة، ويقضي بإلغاء الرسوم على 90% من صادرات المملكة المتحدة إلى الهند، على أن تُعفى 85% منها من الرسوم خلال عشر سنوات، مقابل إزالة الرسوم عن 99% من الواردات الهندية.
ويعكس هذا الاتفاق نهجاً أكثر تعاوناً وتوازناً، إذ إنه يحقق تقليصاً ملموساً للحواجز التجارية، ويوفّر مكاسب حقيقية للمستهلكين والشركات في البلدين، دون إثارة قلق الأسواق أو زعزعة ثقة المستثمرين، وهو ما يميز الاتفاقات التي تسعى لتحرير التجارة فعلياً.
في السياق ذاته، تتجه الأنظار إلى المحادثات الجارية بين واشنطن ونيودلهي، وسط مؤشرات بأن اتفاقاً تجارياً جديداً قد يُعلن قريباً، بحسب تصريحات للرئيس ترامب ووزير الخزانة سكوت بيسنت، غير أن التوقعات لا تزال محدودة، نظراً لوتيرة التفاوض السريعة واهتمام الإدارة الأميركية بالنتائج الإعلامية أكثر من التفاصيل الجوهرية.
ويرجّح محللون أن يحتفظ أي اتفاق مرتقب بنسبة 10% من الرسوم الجمركية الأميركية على السلع الهندية، مقابل تنازلات محدودة من الجانب الهندي، ما يعني أن السياسة التجارية الأميركية لا تزال تبتعد عن تحرير التجارة، وتقترب من تكريس الحواجز.
وفي هذا السياق، يبدو الاتفاق الأميركي-البريطاني بمنزلة نموذج يُحتذى به، لا لتحرير الأسواق، بل لترسيخ القيود، فقد واصل ترامب تبنّي نهج تصادمي لإعادة تشكيل قواعد التجارة الدولية، واضعاً الرسوم الجمركية في قلب استراتيجيته، رغم الانتقادات التي ترى أن هذا المسار خلق بيئة تجارية أكثر انغلاقاً، لا أكثر انفتاحاً مما كانت عليه عند وصوله إلى السلطة.